تحل اليوم الاثنين، الذكرى الثانية والخمسون لانتصار السادس من أكتوبر المجيد عام 1973، ذلك الحدث الفاصل في التاريخ المصري الحديث والمعاصر.
يعد انتصار أكتوبر محطة شديدة الأهمية، أحاطت بها تفاصيل وأحداث مصيرية غيرت شكل المنطقة بأكملها، وما تلا الحرب الذي كان بمثابة بداية لتحولات كبرى على المستويين السياسي والعسكري.
الحرب بين الروايات الرسمية وقلة الروايات الأدبية
وتهتم معظم الكتب التي صدرت عن حرب أكتوبر بالخطط العسكرية، أو الأحداث السياسية، والنقاط التحليلية للحرب وما تلاها، وهي روايات رسمية.
تقل بشكل ما القصص الأدبية سواء الروايات أو القصص القصيرة، التي يمكننا القول أنها من الممكن أن تنقل الرواية الشعبية عن نصر أكتوبر المجيد.
«حكايات الغريب».. الغيطاني يوثق بطولات أكتوبر بعيدا عن الروايات الرسمية
وفي ظل تلك الندرة للأعمال الأدبية التي تتناول الحرب، تبقى المجموعة القصصية «حكايات الغريب» للكاتب الكبير جمال الغيطاني واحدة من الأعمال الأدبية القليلة والمميزة التي نقلت صوت المواطن المصري العادي، وقصته مع حرب أكتوبر.
قصص «حكايات الغريب»، والتي صدرت عام 1976، وركزت على روح أكتوبر التى تفجرت شعبيا، خصوصا أثناء حصار السويس، حيث وجد المواطن المصرى العادي نفسه أمام تحدى وجودي، فرفض تماما أن يترك أرضه، ودافع عنها باستماتة.
اختار الغيطاني في مجموعته القصصية أن يسلك طريقا غير رسميا؛ فهو لا يهتم بالأحداث والعبور والحرب بشكل كبير، وإنما يرصد في قصصه حياة الناس العاديين، وشخصيات الكثير من الأبطال، وقد استفاد الغيطاني في توثيق تلك القصص من عمله كمراسل حربي فى الفترة بين 1969 و1973.
أبطال أكتوبر الغرباء
تتناول القصص شخصية العميد أركان حرب عبد الله القلعاوي، وعم خضر صاحب نصبة الشاي في مدينة السويس في وقت التهجير.
ويرصد لنا حال الأم المصرية التي تنتظر ابنها العائد من الجبهة، لم يعط الكاتب هذه الأم اسما معينا، وإنما تركها كرمز لكل الأمهات المصريين.
ومن الشخصيات البارزة أيضا الطبيب البورسعيدي الذي رفض أن يترك بلده، وجندي الاستطلاع الذي يرابط أعلى صخور جبل عتاقة، وعبد الرحمن سائق عربة الصحافة، وغيرهم من الشخصيات البسيطة، والتي لم يهتم بها أحد بقدر اهتمامهم بالحدث نفسه.
يتحدث الغيطاني عن حصار أهالي السويس، وتهجيرهم، وحال الشخص البسيط الذي رفض الهجرة، ويصور لنا أدق تفاصيل حياتهم ومشاعرهم أثناء هذه الأحداث المتلاحقة.
«حكايات الغريب».. أهم قصص المجموعة
وأهم قصص المجموعة، والتي تحمل المجموعة اسمها، هي قصة «حكايات الغريب»، وهي منقولة عن قصة حقيقية لسائق بمؤسسة صحفية، وهو عبدالعزيز محمود والذى استشهد فى فترة حصار السويس.
تسرد القصة إنه فى الثانى من فبراير 1974 قام رئيس العهدة بالمؤسسة المعتمدة للتوزيع بكتابة مذكرة لعرض موقف السائق عبدالرحمن محمود، وهو الاسم الأدبي الذي اختاره جمال الغيطاني للشخصية.
دخل عبد الرحمن فى صباح 23 أكتوبر 1973 إلى السويس وهو يقود سيارة نقل فورد موديل 1956 محملة بصحف وكتب ومجلات لنقلها إلى السويس، وهو أكثر سائقى المؤسسة خبرة ومهارة فى الطريق المزدحم بالعربات العسكرية والمنحنيات.
تنقطع كل الأخبار عن عبدالرحمن محمود انقطعت فى 24 أكتوبر، ولم يعرف موقف السيارة والبضاعة، حتى اليوم نفسه أحدث فجوة فى دفاتر العهدة.
ثم يتوالى السرد إنه فى الثالث من فبراير بعد تفكير مشترك صدر قرار بتشكيل لجنة تسافر إلى السويس لتقصى الحقيقة حول عبدالرحمن والبضاعة، وعقد اجتماع جرى فيه مناقشة طرق التحقيق، والتي استقرت على بداية التحقيق بسؤال أمه عنه قبل الذهاب إلى السويس.
تذهب اللجنة بعد ذلك برئاسة الجوهري رئيس العهدة لتقصي الحقائق في السويس حول عبد الرحمن، وهنا يدخلون في دوامة حيث يتحول عبد الرحمن إلى عديد الشخصيات أهمهم هو المقاوم الغريب.
تختلف الروايات، ولا يتفق إثنان على رواية واحدة، وتضيع الحقيقة وسط تلك السرديات، وفي نهاية لا يعرف أحد أين ذهب الغريب، أو عبد الرحمن، وهل مات فعلا، أم أنه أقوى من الموت.
فيلم «حكايات الغريب»
تحولت القصة عام 1992 إلى فيلم بنفس العنوان، من إخراج إنعام محمد علي، وسيناريو وحوار محمد حلمي هلال، ومن بطولة محمود الجندي، ومحمد منير، وآخرين.
ولقد نجح الفيلم في نقل روح القصة، والمجموعة بشكل عام إلى الشاشة عبر التوسع فى حكاية عبد الرحمن نفسه، في سرد سينمائي إنساني بديع.
«حكايات الغريب».. حكايات إنسانية بامتياز
إن المجموعة القصصية «حكايات الغريب» هي أكثر من مجرد قصص توثيقية للحرب أو النصر في حد ذاته، بل إنها تتجاوز ذلك؛ لتصبح قصص إنسانية عن الإنسان المصري البسيط، وأنه عندما يصبح هذا الإنسان في اختبار وجود؛ فإنه يتحول من إنسان بسيط إلى بطل مغوار.
مهمة الغيطاني كانت أيضا توثيقية، لكنها لم توثق رواية رسمية مثل التي يعرفها معظمنا، ولكنه ركز على رواية شعبية إنسانية، ولذلك حملت المجموعة اسم «حكايات الغريب»، لأنها تنتصر لهؤلاء الغرباء الذين نسيت حكاياتهم البطولية، وضاعت وسط الجموع.
هنالك تفصيلة هامة في القصة الرئيسية في قصص «حكايات الغريب» تؤكد تلك الهامشية لهؤلاء الأبطال، وهي أنها كانت عن البحث عن العهدة، وليست عن السائق عبد الرحمن، وهي تفصيلة تؤكد تهميش الإنسان بشكل كبير في مقابل البيروقراطية والرسمية.
شيئا آخر يؤكد على أن هؤلاء الأبطال أصبحوا غرباء بالفعل، هو ظن البعض بأن «حكايات الغريب» هي رواية، ومن الممكن أن يكون الفيلم، هو الذي غذى تلك الفكرة، ولكنه تأكيد ضمني على أن حكايات الغرباء الأبطال يمكن نسيانها وسط رسميات التاريخ.