يحمل كتاب «أبواب الأذى» للكاتب والباحث الدكتور عمار على حسن، الصادر حديثا عن دار الشروق، دفترا مفتوحا على أوجاع المصريين، فالكتاب لا يقف عند حدود السرد ولا يكتفى بتحليل سطحى للأزمات التى يتعرض لها المجتمع المصرى، بل يقدّم محاولة جريئة وصريحة لكسر حاجز الصمت والوهم، والغوص فى «خنادق الواقع» المركّب، فهو كتاب يتجاوز الكتابة التقليدية ليقدم مشروعا فكريا متكاملا، يضع يده على مواضع الداء، ويسعى إلى فتح مسارات للتفكير فى سبل الإصلاح.
منذ الصفحات الأولى للكتاب، يضعك الكاتب أمام حقيقة صادمة صاغها فى جملة مكونة من 4 كلمات؛ «نحن مجتمع فى خطر»، مؤكدًا أن هذه حقيقة لا مواربة فيها وأنها ليست محل شك أو ريبة أو تهوين، وأن لهذا الخطر ألف باب والآف النوافذ، ومؤكدًا أن الأمر تعدى عتبة الحديث عن ضعف البنية الاجتماعية وغيرها من الأمراض التى ألفها المصريون زمنا طويلً كالاستبداد والفساد والخوف من المواجهة وغيرها، بل إن الخطر أصبح تهديدا بالبقاء خاصة أن العوامل التى ساعدت المجتمع على التماسك على مدى قرون طويلة باتت تتآكل وتتحلل على مدى السنوات دون أن نجد سبلا للتصدى لها وعلاجها.
الكتاب يسلط الضوء على حالة العجز فى فهم الحقوق والواجبات، وعوامل الخطر التى نتعرض لها، ومنها تراجع دور مصر الثقافى، بعدما كانت تقود من خلاله العالم القديم كله، وتؤثر تأثيرا قويا فى محيطها الإقليمى فى الزمن الحديث والمعاصر.
وكذلك نحن فى خطر لتراجع مستوى التعليم، والنظر إليه وكأنه مجرد وسيلة لتحصيل الوظائف والالتحاق بسوق العمل، وكذلك خطر عدم إتقان الأجيال الجديدة من أصحاب المهن التى عرفناها وأقمناها على مدار تاريخ طويل، وتراجع قيمة العمل نفسه التى لم تعد محل نظر، ولا محل احترام، عند كثيرين، مع رغبة أغلب الناس فى تحصيل الكسب دون بذل جهد وتعب.
ويشير الكتاب بوضوح إلى أننا لا نزال وسنظل فى خطر طالما ظلت روح التسلف والتطرف فى مجتمعنا قائمة لم تذهب بعد، بل إنها تجد من المبررات الكثير، فى ظل غياب البديل، وإخفاقنا ومن فى يدهم القرار فى تحقيق ولو الحد الأدنى من تطلعات الناس، بخاصة فى ظل تفشى خطر الفقر والعوز، مؤكدًا وقوعنا فى دائرة الخطر لأننا لا ندرك أننا «أمة» وليس مجرد «دولة».
ويتوقف الكتاب أمام أزمة البحث العلمى والدراسات الاجتماعية فى مصر، معتبرا أنها محكومة فى كثير من الأحيان بإطار ضيق مثل الدرسات التى يحركها رغبة باحثى العلوم فى نيل الترقيات الجامعية، أو مسيّرة لخدمة مصالح محددة، ما يحرمها من الحرية المطلوبة، ويجعلها عاجزة عن التعمق فى فهم الظواهر.
فالكاتب يرى أن البحث العلمى، إذا ظل مقيدًا بالمطالب الرسمية أو احتياجات عاجلة، لن يؤدى دوره الحقيقى فى كشف جذور المشكلات أو اقتراح حلول جادة، مثلما يجرى فى الواقع المعيش.
ويولى الكتاب اهتماما خاصا بحال الثقافة والفنون فى مصر. إذ يتساءل عن أسباب انجذاب الجمهور إلى أنماط ترفيهية سطحية، بينما تترنح الفنون الجادة وتتراجع مكانتها، ويمتد التشخيص ليشمل صورة المثقف المصري، الذى يعانى من أزمات متعددة. فهناك من احترف الثرثرة والظهور الإعلامى دون أن يقدم فكرا حقيقيا، ومنهم من يبيع أوهاما وسحرا للجمهور وغيرها.
ولا يقتصر الكتاب على تشخيص الأزمة فحسب، بل يقدم دعوة مفتوحة إلى إعادة الاعتبار للفكر والمعرفة كقوة دافعة للتغيير. فالإصلاح عند عمار على حسن لا يبدأ بقرارات فوقية أو حلول ترقيعية، بل بوعى نقدى جرىء يعترف بالواقع كما هو، دون تجميل أو مواربة. وإن مواجهة الحقائق المؤلمة، فى نظره، هى الخطوة الأولى لإصلاحها، ومن هنا جاءت تسمية الكتاب «أبواب الأذى»؛ فالدخول إلى الأوجاع ومواجهتها شرط ضرورى للتعافى.
الكتاب إذن ليس مجرد دفتر لتسجيل الأوجاع الماضية أو الحالية، بل بوصلة توجه الأنظار إلى المستقبل. فهو يطرح سؤالا محوريا: كيف يمكن لمجتمع مثقل بالأزمات أن ينهض؟ ويجيب بأن السبيل هو شجاعة المثقف والمؤسسات فى مواجهة الواقع، والالتزام بدراسات جادة تعمق الفهم بدل الاكتفاء برصد الظواهر السطحية.
وفى النهاية، يقدم «أبواب الأذى» كتابة نابعة من الميدان لا من رفاهية المكاتب، كتابة مشبعة بتجارب الحياة اليومية، بالشارع والسوق والعمل، ومتصلة بالتاريخ فى آن واحد.
وبهذا، يتحول الكتاب إلى أداة عملية للنقاش والفهم، لا إلى مجرد مادة نظرية. إنه دعوة لإعادة تعريف الكتابة باعتبارها مسئولية وموقفًا، ودعوة للقارئ نفسه كى يشارك فى هذه المواجهة عبر وعى نقدى لا يخشى فتح «أبواب الأذى»، لأنها وحدها الطريق إلى مستقبل أفضل.