مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى الحكم في يناير الماضي، أصبحت قضية العجز في الميزان التجاري للولايات المتحدة بشكل عام ومع شركائها التجاريين الرئيسيين وبخاصة الصين والاتحاد الأوروبي وكندا واليابان، واحدة من أهم القضايا الاقتصادية على جدول أعمال ترامب وقادة دول العالم، خاصة بعد أن قرر ترامب فرض رسوما جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات الأمريكية وبنسب أكبر على الواردات من الدول ذات الفائض التجاري مع الولايات المتحدة.
ومنذ ذلك الوقت أصبح الحديث عن ضرورة التصدي للاختلالات التجارية العالمية قضية حيوية من أجل ضمان انتظام واستقرار حركة التجارة العالمية.
وقال داني رودريك، الخبير الاقتصادي بجامعة هارفارد، إن استمرار اختلالات التجارة هو نتيجة لعالم تباين مواقف الدول بين التكامل العالمي والسيادة الاقتصادية لها، فالدول التي تختار التكامل العالمي تعمل على استيعاب الاختلالات الناجمة عن سياسات من تختار السيادة الاقتصادية.
وفي تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية، قال المحلل الاقتصادي مايكل بيتيس الباحث المشارك في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي: "لنفترض، على سبيل المثال، حكومةً تحقق فوائض من خلال انتهاج سياسات تدعم التصنيع على حساب الإنفاق الاستهلاكي، من خلال خفض سعر الفائدة على قروض المصنعين، أو بخفض قيمة عملتها، أو بدعم البنية التحتية للنقل، في هذه الحالة ما لم يقاوم شركاؤها التجاريون بسياساتٍ مُعاكسة، فإنهم سيضطرون إلى استيعاب هذا الفائض إما من خلال زيادة الاستثمار المحلي، أو زيادة الاستهلاك، أو ارتفاع معدل البطالة، أو مزيج من هذه النتائج الثلاث".
- انفتاح السوق الأمريكية.. وإعادة هيكلة الاقتصاد الصيني جزئيا
وأكد بيتيس، صحة هذا التصور بغض النظر عن مدى قوة هؤلاء الشركاء التجاريين. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، لديها أكبر اقتصاد في العالم، ولكن بسبب انفتاح سوقها، أعادت الصين هيكلة اقتصادها جزئيا، بدعم مصانعها المحلية بشكل كبير للاستفادة من سوق التصدير الأمريكية الضخمة.
وتابع: "في الوقت نفسه لا يعني هذا أن تغلق الدول أبوابها أمام التجارة الدولية، فالناس يستفيدون من التجارة.. ولكن للتأكد من أن التجارة تخدم مصالحهم الوطنية، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها إنشاء نظام يقلل من قدرة الدول على التخلص من تكلفة سياساتها الاقتصادية المحلية".
- أفضل طريقة هي إنشاء اتحاد جمركي عالمي جديد
ويرى بيتيس، أن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي إنشاء اتحاد جمركي عالمي جديد يتفق أعضاؤه على الحفاظ على تجارتهم متوازنة وحرة نسبيًا، مع وضع حواجز ضد الدول التي ترفض موازنة الصادرات مع الواردات.
وأضاف: "في الوقت نفسه سيظل في إمكان أي حكومة من حكومات الدول الأعضاء في مثل هذا الاتحاد، اختيار دعم أنواع معينة من الاستثمار والتصنيع، ولكن فقط إذا كانت قادرة على استيعاب التكاليف الناتجة عن ذلك بنفسها دون أن تمررها إلى شركائها التجاريين.. ولكي تنجح التجارة العالمية، يجب على كل دولة الحفاظ على سيادتها الاقتصادية.. وإلا، سيكون لدى الدول حافز قوي للغاية لتصدير مشاكلها الاقتصادية من خلال سياسات إفقار الجار".
وأكمل: "كما يجب أن تكون الاختلالات الاقتصادية الداخلية لأي دولة متسقة دائمًا مع اختلالاتها الخارجية، والتي يجب أن تكون بدورها متسقة مع الاختلالات الخارجية لشركائها التجاريين.. فالدول التي تتحكم في رؤوس أموالها وميزانها التجاري تستطيع تصدير تكاليف سياساتها المحلية إلى الخارج. لننظر، على سبيل المثال، إلى ما حدث عندما اختارت ألمانيا معالجة البطالة المحلية في التسعينيات من خلال ما عرفت باسم إصلاحات هارتز للفترة 2003-2005، التي قيدت نمو الأجور مقارنةً بالإنتاجية.. وقلل هذا من حصة العمال الألمان في الناتج المحلي الإجمالي لبلادهم مقابل دعم أرباح الشركات بشكل كبير.. وأدى هذا إلى انكماش الاستهلاك المحلي، بينما توسع قطاع التصنيع وارتفعت فوائض الميزان التجاري للبلاد بشكل كبير مع تضخم أرباح الشركات".
وتابع: "في الوقت نفسه، تحكمت برلين في العملة الأوروبية الموحدة بفعالية، بفضل هيمنتها على البنك المركزي الأوروبي، مما اضطر شركاء ألمانيا في الاتحاد الأوروبي إلى استيراد جميع فوائضها تقريبا.. ومع استمرار عجز هذه الدول التجاري، اضطرت اقتصاداتها إلى التكيف، أحيانًا بزيادة الاستثمار، بما في ذلك في فقاعات العقارات، وأحيانًا أخرى بارتفاع معدلات البطالة أو تزايد ديون الأسر أو الحكومات".
وأوضح أن هذا السيناريو تكرر تقريبا بين الصين والولايات المتحدة في نفس الوقت تقريبًا.. بين عامي 2002 و2010، عندما طبقت بكين أسعار فائدة حقيقية سلبية لإنعاش النظام المصرفي المثقل بالقروض المتعثرة، وانخفضت حصة الأسر والاستهلاك من 48٪ من الناتج المحلي الإجمالي في بداية القرن إلى 34٪ بحلول عام 2011، في المقابل ارتفعت المدخرات الوطنية الصينية والفائض التجاري بشكل كبير، إلى جانب التصنيع، الذي تم تنشيطه برأس مال رخيص للغاية.
وأشار إلى أن معظم مدخرات الاقتصاد الصيني الفائضة توجهت إلى الولايات المتحدة من قبل بنك الشعب (المركزي) الصيني، حيث راكم كميات هائلة من سندات الخزانة الأمريكية لدعم احتياطياته، وبضخ الأموال في هذه السندات، وفرضها ارتفاعا في قيمة الدولار مقابل اليوان، أجبرت الصين الولايات المتحدة أيضا على تسجيل عجز تجاري مماثل، كما أدى ذلك إلى تغييرات في الاختلالات الاقتصادية الداخلية للولايات المتحدة، وتسربت الصناعات التحويلية الأمريكية إلى الصين، وأغلقت المصانع في الولايات المتحدة خطوط الإنتاج وسرحت العمال.
وقال بيتيس، في شرحه لفكرة الاتحاد الجمركي العالمي، إنه في عالم مفتوح بالفعل، وخال من سياسات الائتمان الموجه، والتحكم في أسعار الصرف وفرض القيود على حركة التجارة ورأس المال، لن تنتقل اختلالات التوازن الاقتصاي في بلد ما بسهولة إلى خارجه، بدلاً من ذلك، سيميل الاقتصاد المحلي إلى التصحيح الذاتي مع تعديل أسعار الصرف التي تحددها السوق، وتدفقات رأس المال، وأسعار الفائدة بطرق تعكس الاختلالات الداخلية، في مثل هذا العالم، ستكون التجارة متوازنة على نطاق واسع، حيث تسعى الدول إلى تحقيق مزايا نسبية وتصدر لدفع ثمن الواردات التي تعظم الرفاهية المحلية.
وقال: "لكن ما يحدث الآن هو أن بعض الاقتصادات الكبرى تتدخل بقوة في حركة تجارتها ورؤوس أموالها، مما ينتج عنه فوائض مستمرة نتيجة تشوهات في الطلب والإنتاج المحليين، بينما لا تفعل اقتصادات أخرى ذلك. فلا عجب إذن أن يكون النظام التجاري الحالي مضطرب بهذا الشكل".
- صياغة نظام تجاري جديد يجبر كل عضو على معالجة اختلالاته
ووأكمل: "للحفاظ على نظام عالمي مستقر وعادل، يجب على صانعي السياسات إدراك أن التجارة المشتركة تنطوي على قيود مشتركة.. يجب على جميع الاقتصادات الكبرى قبول قيود مماثلة على قدرتها على إدارة الائتمان والعملات والحسابات الخارجية. بمعنى آخر، يجب على العالم صياغة نظام تجاري جديد يجبر كل عضو على معالجة اختلالاته الخارجية داخليا، كما اقترح الاقتصادي جون ماينارد كينز في عام ١٩٤٤".
وتابع: "لكن حتى الآن، لم تبدِ الدول رغبة تذكر في تشكيل مثل هذا التحالف، بل إنها بدلا من ذلك، تتبنى سياسات "إفقار الجار" التي حذرت منها الاقتصادية جوان روبنسون عام ١٩٣٧، عندما أوضحت أن الغرض الرئيسي من الفوائض التجارية هو تفريغ البطالة الناتجة عن ضعف الطلب المحلي. على سبيل المثال، تعمل الولايات المتحدة الآن بقوة - وإن لم تكن فعالة جدًا - لخفض عجزها التجاري بفرض رسوم جمركية على الواردات، لترد الدول أخرى بإجراءات انتقامية خاصة بها فيعاني النظام التجاري العالمي من مخاطر جمة".
وأضاف: "في الوقت نفسه فإن الاتحاد الجمركي العالمي المأمول سيحقق التوازن التجاري مع الدول غير الأعضاء من خلال اعتماد حواجز تجارية متغيرة - إما في شكل تعريفات جمركية أو ضرائب على تدفقات رأس المال ، بما يضمن عدم انتقال اختلالات الدول غير الأعضاء إلى الاتحاد الجمركي. ولن تكون هذه الإجراءات عقوبة سياسية، بل إجراءات قائمة على القواعد بين شركاء التجارة".
أخيرا، قال مايكل بيتيس، إن المبدأ الكامن وراء هذا الاتحاد هو أن مكاسب التجارة تكون أكبر عندما تكون تدفقات التجارة متبادلة ومستدامة؛ لأن الفوائض المستمرة والمصممة وفقًا للسياسات التي تستهدف تعزيز حصة الصناعة التحويلية لبلد ما عن طريق قمع نمو الأجور على سبيل المثال، لا تعظم الناتج العالمي، وإنما تؤدي إلى معاناة الشركاء التجاريين من ارتفاع معدلات البطالة أو معدل الديون، وهو ما لا يمكن أن يكون مفيدا لأي طرف على المدى البعيد.