في زمنٍ يتراجع فيه حضور البرامج الثقافية أمام صخب الترفيه، يطل برنامج «مفاتيح» مراهنًا على اللغة والمعرفة، وساعيًا إلى إعادة الاعتبار للكلمة العربية وفتح آفاقها أمام جمهور متنوع.
وتقول الشاعرة خلود المعصراوي في حديثها لـ«الشروق»، إن فكرة البرنامج بدأت بعنوان «مفاتيح الكتب»، وكان التصور الأول يقتصر على فقرة أسبوعية لمراجعة كتاب. لكن مع تطور الرؤية واتساعها إلى أربع فقرات متكاملة، استقر الرأي على الاكتفاء باسم «مفاتيح»؛ اسم أكثر رحابة، لا يحصر المحتوى في الكتاب وحده، بل يجعله بوابة للدخول إلى عالم اللغة، كما تحبها خلود وتدعو الآخرين إلى مشاركتها هذا العشق.
تُبنى حلقات «مفاتيح» بعناية تشبه بناء القصيدة. كل حلقة نسيج واحد من أربع فقرات، لكل فقرة نغمتها الخاصة، لكنها تصب في فكرة مركزية واحدة. الكتاب هو نقطة الانطلاق، ومنه تتفرع الفقرات بين الشعر، والمعاني، والأمثال العربية، في تجربة يتلقى فيها المشاهد المعرفة دون شعور بالانفصال أو التشتت، بينما تلتف اللغة حوله كـ«وشاح مخملي» في سياق هادئ ومتأمل.
اللغة العربية تمنح صاحبها المزيد وجمهور البرنامج غير متوقع
ورغم الطبيعة النوعية للبرنامج، جاء اتساع جمهوره مفاجئًا لصاحبته، من سيدة تجعل «مفاتيح» رفيقها أثناء إعداد الطعام، إلى طفلة صغيرة تتابع الحلقات بشغف، وهو ما منح التجربة بعدًا إنسانيًا دافئًا، وكسر الصورة النمطية التي تحصر البرامج الثقافية في دائرة ضيقة من المتلقين.
لا ينطلق «مفاتيح» من هاجس سد نقص في المحتوى العربي، فالمحاولات – كما ترى خلود – كثيرة ومتنوعة ومثمرة. لكن اللغة، برحابتها وعمقها، ما تزال تمنح المزيد لمن ينقّب ويبحث. وربما ما كان ينقص هذا المشهد، ليس الأفكار أو الجهد، بل حضور الأصوات النسائية، التي لا تزال محدودة في هذا النوع من المحتوى، وهو ما شكّل أحد دوافع التجربة.
خلطة البرنامج الخاصة ورهان على نوعية التفاعل
الربط بين التراث العربي والفكر الفلسفي المعاصر هو «الخلطة» الخاصة للبرنامج. قد تبدأ الحلقة بكتاب حديث مترجم، ثم تمهّد للحديث عن المتنبي، وتنسج خيطًا يصل بين قصته وقصة دون كيشوت. هذا التوازي بين الثقافات يعكس التجربة الشخصية لخلود؛ دراسة جامعية باللغة الإنجليزية، وشغف بالمعلقات والشعر القديم، واطلاع على الفكر الغربي، وقراءات للعقاد والرافعي. تجربة أرادت نقلها إلى الجمهور وفق معيار جمالي خالص، يكون فيه الموضوع واحدًا، واللغة هي الرابط الأعلى.
لغة «مفاتيح» التي تمزج بين السرد الأدبي والتحليل الفكري لم تأتِ مصادفة. فالإعداد يستغرق وقتًا ويمر بمراحل طويلة من الكتابة، وإعادة الصياغة، والتسجيل، والاستماع، ثم المراجعة الدقيقة؛ كلمة تُستبدل، وجملة يُعاد بناؤها، حتى تستقر اللغة في صورتها النهائية. وعندما تأتي ردود فعل النقاد ومحبي اللغة مؤكدة أن السرد أصاب هدفه، يكون الجهد قد أتى ثماره.
ورغم تناول البرنامج موضوعات أخلاقية وإنسانية، فإنه يتعمد الابتعاد عن الخطاب الوعظي المباشر. فاللغة العربية، في نظر مُعدته ومقدمته، لا تحتاج إلى وعظ؛ حبها وحده كفيل بتهذيب الذائقة وترقيق الطباع. وإذا نجح «مفاتيح» في توسيع دائرة المهتمين باللغة وآدابها، فقد حقق غايته دون خطاب إرشادي ثقيل.
ولا تغيب الموسيقى أو الإيقاع البصري عن هذا البناء. فالموسيقى عنصر أساسي في التجربة، جاءت متناغمة مع أجواء الحلقات وإيقاعها، بجهد من مصمم الجرافيك هاني مرتضى. وبحسب خلود، لمس المتابعون هذا الأثر وأثنوا عليه، ما عزز الإحساس بأن البرنامج يُخاطب الحواس بقدر ما يخاطب العقل.
أما عن معيار النجاح، فلا يراهن «مفاتيح» على عدد المشاهدات وحده، بل على نوعية التفاعل. ومع إدراك الشاعرة أن الخوارزميات تميل إلى دعم المحتوى الاستهلاكي، وأن البرامج الثقافية تعاني تهميشًا عالميًا، فإن قناعتها لم تتغير: القيمة المعرفية رهان طويل النفس، وإن بدا خارج منطق السوق السريع.
كسر الصورة النمطية للمرأة
اللافت أن النقاشات الأعمق لا تأتي فقط بعد بثّ الحلقات، بل أثناء إعدادها، من خلال التواصل مع الكُتّاب، وما يفتحه ذلك من حوارات مثمرة حول أفكارهم وكتبهم. أما التحديات، فلم تكن مرتبطة بكون مقدمة البرنامج امرأة، بقدر ما كانت في كسر الصورة النمطية التي تحاول حصر النساء في قوالب محتوى محددة. فالمعرفة – كما تؤمن خلود – لا جندر لها، والتحدي الحقيقي هو فرض جودة المحتوى في فضاء مزدحم بالسطحي، وإثبات أن المشاهد العربي — رغم كل شيء — ما يزال يبحث عن الدهشة المعرفية والتحليل العميق.
ومن هذا المنطلق، ترى مقدمة «مفاتيح» أن صوت المرأة يضيف زاوية مختلفة في تناول الفلسفة والتاريخ، لا من باب التمييز، بل من باب تكامل الرؤية؛ فالتاريخ والفلسفة كُتبا غالبًا بعيون ذكورية ركزت على المعارك والانتصارات والنظريات المجردة، بينما يضيف الصوت النسائي البعد الإنساني المفقود، فتتحول الفلسفة من مفاهيم باردة إلى قضايا نابضة بالحياة.
تحرر من الخوف ورؤية أوسع للمستقبل
منذ الحلقة الأولى، تطور «مفاتيح» في الروح قبل الأدوات. تحرّر من الخوف من الخروج عن إطار الكتاب، وتعامل معه كبوابة إلى فلسفة الحياة، وعلم النفس، وتفاصيل النفس البشرية. انتقل من سرد المعلومات إلى صناعة الحالة الشعورية، واكتسب مع الوقت هوية لغوية وبصرية خاصة بكل حلقة.
أما المستقبل – وفق خلود - فمفتوح على التطوير والتوسع، من خلال إعداد حلقات جديدة، ومناقشة طيف واسع من الكُتب، واستضافة كُتّاب، إلى جانب خطط أخرى سيُكشف عنها في وقتها المناسب. وفي هذا السياق، لا تغيب الإشارة إلى البيئة التي احتضنت «مفاتيح». فبرنامج بهذا العمق واللغة الرصينة لم يكن ليخرج إلى النور لولا إدارة واعية تؤمن بأن القيمة المعرفية هي الرهان الأبقى.
وفي ختام حديثها، توجهت الشاعرة بشكر خاص لقناة «اليمن اليوم»، ولمدير البرامج عيسى العزب، والمدير العام التنفيذي عبد الوالي المذابي، على الثقة والمساحة والدعم الممنوحين لها دون فرض قيود على الفكر. فهكذا يواصل «مفاتيح» فتح أبوابه: لا ليعظ، ولا ليستعرض، بل ليذكّر بأن اللغة بيتٌ واسع، وأن من يملك مفتاحها، يملك طريقًا آخر إلى الفهم.