تُعد مسألة إيجاد موارد جديدة للتنمية الاقتصادية إحدى أهم المهام ذات الأولوية للدولة المصرية، وذلك من أجل النهوض اقتصاديًا وتحقيق التنمية المستدامة؛ وذلك عبر مجموعة من الآليات، منها: تنمية الصناعات الوطنية والعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية إلى مصر، وما يترتب على ذلك من توفير فرص العمل، وتنمية موارد الدولة، وزيادة صادراتها، وتحسين بيئة الأعمال، وتعزيز ثقافة ريادة الأعمال، وتحقيق الشمول والاستدامة المالية، والتحول نحو الاقتصاد الرقمي، والاقتصاد القائم على المعرفة؛ وجميعها أمور تؤدي إلى تحقيق التنمية المستدامة.
وفي هذه المرحلة تلعب الملكية الفكرية دورًا رئيسًا في النمو الاقتصادي وتعزيز سبل جذب الاستثمارات الأجنبية والوطنية القائمة على الابتكار والإبداع، إذ أن الاستثمار في البشر والفكر الابتكاري وبناء قدراتهم الإبداعية، والتحفيز على الابتكار ونشر ثقافته ودعم البحث العلمي، وتعزيز الروابط بين التعليم والبحث العلمي والتنمية، إحدى المحاور الهامة من أجل الارتقاء الاقتصادي.
ودائمًا ما تكون العلاقة بين الملكية الفكرية والاستثمار علاقة طردية وإيجابية، فكلما ارتفع مستوى حماية الملكية الفكرية زاد معها التدفق الاستثماري، خاصة الاستثمار الأجنبي الذي يعد أحد أهم الأقطاب الجاذبة له حماية الملكية الفكرية واحترامها، وذلك نظرًا للإمكانات المالية والإدارية والفنية والتقنية التي تمتلكها الشركات الكبرى، والتي تحتاج - بطبيعة الحال - إلى حماية قانونية لهذه الإمكانات وفقًا لآليات حقوق الملكية الفكرية.
وهو الأمر الذي يتطلب إعداد نظامًا اقتصاديًا قويًا قائمًا على تنظيم تشريعي، وتنظمي، وإداري، يساير الركب العالمي في مجال الملكية الفكرية، ويعمل على تذليل العقبات أمام المستثمرين، بما يخدم أهداف الدولة وسياساتها الاقتصادية على الوجه الأمثل.
ولقد آمنت جُل دول العالم بأن الملكية الفكرية تساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن الاقتصاد المعرفي القائم على عناصر الملكية الفكرية سيصبح السبب الرئيس في التقدم الاقتصادي؛ إذ أن الملكية الفكرية تُشجع المستثمرين - الوطنيين والأجانب - على ضخ الاستثمارات في المجال الصناعي والتجاري من خلال نقل التكنولوجيا، وغيرها من الاستثمارات الأخرى التي تساهم بشكلٍ - مباشر أو غير مباشر - في نمو الاقتصاد الوطني.
وفي هذا الإطار نشير إلى تجربة جمهورية كوريا الجنوبية المُلهمة، إذ تمكنت من التحول من دولة نامية لتصبح في مصاف الدول المتقدمة، وهو الأمر الذي وضعها في المرتبة الخامسة في مؤشر الابتكار العالمي عام 2022 الذي يصدر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، والأولى وفقًا لمؤشر بلومبرج (Bloomberg) للدول المبتكرة عام 2021.
بدأت خطة التنمية الاقتصادية في كوريا الجنوبية عام 1962 بوضع خطة خمسية ارتكزت على قطاعات بعينها والاعتماد على المنتج المحلي والتسويق لتصديره، مع العمل على جذب الاستثمارات الأجنبية في قطاعات محددة لاستقطاب التكنولوجيا الصناعية الحديثة في الإلكترونيات وصناعات التكنولوجيا وصناعة السفن والسيارات والبتروكيماويات والآلات؛ مما أدى إلى تسارع رؤوس الأموال الأمريكية واليابانية في ضخ استثماراتها في كوريا، ولقد كان نتاج ذلك أن أصبح الاقتصاد الكوري من أسرع الاقتصاديات نموًا في العالم منذ عام 1960 إلى نهاية القرن العشرين.
اعتمدت كوريا للوصول إلى هذه النتائج على الملكية الفكرية، وذلك من خلال توسيع الموضوعات القابلة للحماية بموجب براءات الاختراع، ورفع كفاءة إدارات الفحص، والبت في طلبات التسجيل، وتبسيط الإجراءات في المكتب الكوري للملكية الفكرية، وتعزيز حماية براءات الاختراع، ومكافحة الاعتداء عليها، والانضمام إلى المعاهدات الدولية المعنية، وتقليل عدد الموضوعات غير القابلة للحصول على البراءة، واستبعد من الحماية براءات الاختراع المخالفة للنظام العام أو الآداب، أو يكون ضارًا بالصحة العامة.
وفي شأن الملكية الأدبية والفنية، نود الإشارة إلى تجاوز صادرات كوريا الجنوبية السنوية من السلع الثقافية حاجز 10 مليار دولار لأول مرة في عام 2019، ولقد أعلنت وزارة الثقافة الكورية أنها تستهدف خلال الفترة من 2022 إلى 2027 إلى توسيع حجم الصناعات ذات الصلة بحقوق المؤلف وذلك لرفع مكانة كوريا الجنوبية في فئة حقوق المؤلف في "مؤشر الغرفة الدولية للملكية الفكرية" إلى المركز الخامس.
ولعل هذه التجربة المُلهمة تمنح الدول النامية الأمل في غدٍ أفضل، وذلك من خلال وضع خطة للتنمية الاقتصادية تكون أحد محاورها الملكية الفكرية، على أن يتم وضع استراتيجية تتناسب مع فلسفة المشرع الوطني والسياسات الاقتصادية التي ترتكز على قطاعات بعينها، وبما يتناسب مع ما تتمتع به الدولة من إمكانات سواء في المجال الصناعي والتجاري (الملكية الصناعية) أو في المجال الأدبي والفني والعلمي (الملكية الأدبية والفنية).
وفي السياق ذاته، يجب تذليل العقبات الإدارية التي تفرضها الهيئات الإدارية المعنية بتسجيل وإيداع عناصر الملكية الفكرية، والعمل على تقليل مدد التسجيل، وتبسيط إجراءات التسجيل في القطاعات التي تستهدفها سياسات الدولة الاقتصادية، ومكافحة الاعتداء على عناصر الملكية الفكرية.
وكذلك، يجب التغلب على المشكلات التكنولوجية والتقنية الخاصة بواقعات الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية متمثلة في الجرائم الإلكترونية، وذلك من خلال التسلَح بالتقنيات التكنولوجية الحديثة في مواجهة تلك الجرائم، وذلك بدءًا من تحرير البلاغات والشكاوى؛ وصولًا إلى تنفيذ الأحكام القضائية من خلال التدابير التكنولوجية الحديثة؛ على أن يتم كل ذلك خلال مدد زمنية وجيزة ومعقولة، تتناسب مع طبيعة هذه الجرائم وتأقيتها.
كل ذلك يستلزم توفير بنية تحتية تكنولوجية تدعم وتحفز الابتكار، والعمل على ترسيخ ثقافة التنافس وتشجع الابتكار وريادة الأعمال، وتعزز الشراكة مع القطاع الخاص من أجل زيادة الاستثمار في البحث العلمي، والعمل على تدريب وتأهيل الكوادر القادرة على التطوير؛ كل ذلك مع وجوب توفير حوافز ضريبية وجمركية للصناعات القائمة على الابتكار، وذلك من أجل تعظيم الناتج المحلي من الصادرات، مما يؤدي – في النهاية - إلى تحقيق التنمية الاقتصادية المرجوة.
إن الفرصة سانحة أمامنا لاستخدام الملكية الفكرية كآلية – ضمن آليات أخرى عدة – لتحقيق التنمية الاقتصادية المرجوة، وذلك من خلال تشكيل لجنة وطنية تضم في تشكيلها خبراء اقتصاديين واجتماعيين وقانونيين، وخبراء في التكنولوجيا والزراعة والثقافة، وخبراء في مختلف التخصصات الأخرى، لتضمين الاستراتيجية الوطنية للتنمية الاقتصادية فرع قائمًا على الملكية الفكرية، وتحديد قطاعات محددة - تعكس سياسة الدولة المصرية - التي ترغب في تحقيق الريادة الاقتصادية بها، ليتم العمل على جذب الاستثمارات الوطنية والأجنبية بها.
• الحائز على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاقتصادية والقانونية
• عضو لجنة حماية الملكية الفكرية بالمجلس الأعلى للثقافة