رحمى التعيس - إسعاد يونس - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 7:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رحمى التعيس

نشر فى : الخميس 2 أبريل 2009 - 4:19 م | آخر تحديث : الخميس 2 أبريل 2009 - 4:19 م

 لم أكن أتوقع أبدا هذا الكم من المشتاقين لها.. المتيمين فى غرامها.. المحبين الولهانين العاشقين.. الملتاعين مما يحدث لها.. الخائفين المرتعبين المرتعدين.. من أن يتغير وجهها إلى الأسوأ.. المتباكين على أيام زهوها..

الباحثين عن عزها.. المتألمين لألمها.. الذائبين فى غرامها.. الثائرين على حسادها.. الناقمين على أعدائها.. الكارهين لضعفها المصنوع بيد آخرين..

الحانقين على ظروفها.. الخائفين من أيامها الآتية.. المصدومين من وعكتها.. المذعورين من مرضها.. المصلين لنجاتها.. المبتهلين لشفائها.. المقررين أخيرا أن يقاتلوا من أجلها بعد طول صمت.

ومن أكون أنا وسط هؤلاء الذين أسهم بعضهم فى بهائها.. هؤلاء الذين وضع كل واحد منهم لبنة واحدة فى صرحها العظيم.. وقد يكون جمع بين كفيه بضع ذرات من رمل بنائها، ولكنه يعيش ويحيا بهذا الإنجاز آملا أن تعود الأيام التى كان يستطيع فيها أن يفعل ذلك.. حتى يضيف ولو حفنة أخرى فيموت راضيا أنه أسهم فى إعلاء قامة حبيبته.

هؤلاء الأعزاء هم من خاطبونى وشرفونى بطلب عضوية حزب الزهقانين، فأصبحنا مجموعة من أبنائها ينوون تجديد عهد الهوى معها.. توحدوا تحت ندائنا «نريدها كما كانت فى عزها وأصبى بهائها.. نريدها مثلما كانت سماؤها مرصعة بنجوم الفكر الحر والثقافة والفن بجميع أشكاله.. والعلم والتقدم والنور والريادة».

تلك الجميلة البهية ناعسة العينين.. رائعة الخالق لدرجة زهوه بها فى كتابه الأمين.. فذكرها فى أربعة وعشرين موقعا منها خمسة بصريح اللفظ والعبارة وتسعة عشر بالقرائن والتفاسير.. تلك الحنونة الدافئة سخية الخير.

كانت الحبيبة تقف شامخة ترفل فى ثوبها الأخضر الفضفاض، تحمل بين طياته صدرا عامرا بالخيرات.. ورحما يجود بالأصالة والعبقرية.. تحمل فتلد شموخا وعزة وعفة.. تنحنى على وليدها فتطعم نبلا وكرامة.. صغارها يمرحون فى رحابها مطمئنين.. قد ينامون جائعين ولكنهم يكسوهم الأمن والإيمان بأن الأم سوف تأتى بالحليب والدقيق.. وسوف تطهو ما يسد الرمق مغمسا فى الرضا واليقين.. المهم هو الدفء تحت جناحها.. والذوبان فى عشقها.. والجهد كل الجهد فى إرضائها وحمايتها والذود عنها.

ولكن....
شاء القدر أن تنجب أكثر مما يجب من أولاد.
كثر الصغار من حولها.. وتباينت أعمارهم وأهواؤهم.. منهم من التصق بها واستدعى الدفء من جنباتها.. ومنهم من فضل البعد عن دائرة الحنان متمردا على قلة الغذاء.. ظنا منه أنه كلما ابتعد كلما اكتسب الاستقلالية وأصبح يستطيع أن يواجه العالم بلا هوية.. ولكن أثبتت الأيام أنه لا يستطيع أن يعيش بلا هوية.. ولأنه كابر أن يعود إلى الحضن الأعظم.. بدأ يتسول هويات أخرى.

ولأن مخزون حنان الجميلة ناعسة العينين لا يجف ولا يقسو.. وهى التى لا تلفظ أبناءها.. ظلت طوال الوقت تمد يديها لتلتقطهم وتعيدهم إلى حضنها.. إلا أن العودة كانت بشروط.

عاد الأبناء وقد اكتسبوا صفات خارجية وعادات غريبة ومفاهيم محيرة.. أصبحت البنوة من وجهة نظرهم هى أن يلصقوا أفواههم بثدييها ليمتصوا الخير.. ولكن الأفواه صارت لها أسنان.. بل أنياب.. وبات الرضاع مصحوبا بالألم ملونا بالدم الذى ينزفه بدنها.. إلا أن قدرة الخالق حمت ضرعها من الجفاف، خيرها لا ينضب.. ولكنه لا يصل لأفواه كل الولاد.. فالأقوياء منهم دفعوا الصغار بعيدا.. وهم الذين لم يبيعوها ولا بأى ثمن.. ولم يروا فى أى أرض أخرى أما تشبهها.. فظلوا حولها غاية ما يتمنون هو رضاها.. ويبسطون أجسادهم على أرض الجنة التى تحت قدميها.

كثر الولاد.. كل منهم يتعلق بها.. بكل جزء من بدنها.. يريدون حليبا.. ومن لا يصل للحليب ينشب أظافره فى أقرب جزء من جسدها.. ويستعذب طعم الدماء التى يمتصها.. من قلبها.. من رئتيها.. من عيونها.. المهم أن يأكل ويملأ أمعاءه منها.. من لحمها أو عظامها أو عروقها.

تنظر حولها وهى تئن فى صمت.. رحمى التعيس ماذا لفظ؟.. مصاصو دماء أو أبناء؟.. ولأنهم كثر.. يصعدون على قامتها متسلقين بعضهم البعض.. فيختنق الصغار ويسقطون تحت الأقدام.. حتى لم تعد تستطيع الوقوف.. فمالت الحبيبة..
مالت على جنبها.. أصبح جسدها فى متناولهم أكثر.. متاحا أكثر.. تئن ألما وتبكى حنانا.. فتتساقط دموعها نارا تكوى أبناءها البارين.. وبردا وسلاما على هؤلاء القساة.
ولم يكتفوا بامتصاص دمها، بل صاروا أيضا يصبون عليها اللعنات.. جردوها من كل قيمها.. اتهموها بالشح والبخل.. ولطخوها بالجهل.. وسحبوا منها كل صكوك الشرف والكبرياء ليجعلوها تكبو وتجهر بأنات الضعف والاستكانة طالبة الغوث من جيرانها.. طالبة النجدة.. ولكن ممن؟.. من أبنائها وفلذات أكبادها.. وهل فعلت؟.

أصبحوا يتقافزون حولها.. يصرخون ويتشاتمون ويرجمون بعضهم البعض.. فمن قال إنهم اتفقوا.. ومن قال إنهم فصيل واحد.. تباينت الأهواء والمشارب والأطماع.. وصار الجمر الذى يقذفون به بعضهم البعض يصيب الأبرياء من أشقائهم.. بل يتساقط على بدنها فيحرقه.

ومن يبتعد عن الصورة بمسافة.. لن يرى إلا أما ترقد على جنبها وقد أضرجت بالدماء وتمزق ثوبها، تنشب أظافرها فى الأرض متشبثة بالحياة تحاول أن تزحف ساحبة أطفالها الرضع لتوصلهم إلى بر الأمان.

إلا أن قدرة الخالق حمتها.. لم يذبل جمالها ولم يضع بهاؤها.. ما زالت عيونها جميلة ناعسة وإن اكتست بالدموع.. ولا يزال شعرها الأسود الفاحم ينسدل على كتفيها فى أنوثة طاغية.. ما زالت أناملها المخضبة بالدماء تتحرك مع إيقاع الموسيقى.. ما زال صوت الأرغول يشجيها ومقام الصبا يحرك أشجانها..
ما زالت تتمايل مع أبيات الشعر.. وما زالت تشتاق لصوت الأذان وأجراس الكنائس.. ولكن متى تستريح؟.

تستريح أثناء ساعات الليل أحيانا، عندما ينام الأبناء.. عندما يتوقفون عن ظلمها ولو لساعات.. لحظتها تتنفس هواء نقيا.. يهدأ نيلها وترتاح أشجارها ويستدير قمرها.

ولحظتها أيضا يصحو البارون من أبنائها.. ليغنوا لها ويطلقوا أبيات الشعر.. يناجونها أن تصمد.. يعدونها أنهم لن ينسوها ولن يتخلوا عنها.. ويقسمون أن يعملوا على إعادة وجهها البهى ومجدها المستنير.. فهى ليست أمهم وحدهم.. هى أم الدنيا.

يا زهقانين.. من أى شىء.. ومن كل شىء.. أصبح بريدكم الإلكترونى بوابة بوح وفضفضة.. فقد قال الأستاذ: عينى رأت مولود على كتف أمه.. يصرخ تهنن فيه.. يصرخ تضمه.. يصرخ تقول يابنى ما تنطق كلام.. ده اللى ما يتكلمش يا كتر همه.. كما قال أيضا: ياعندليب ما تخافش من غنوتك.. قول شكوتك واحكى على بلوتك.. الغنوة مش حاتموتك.. إنما.. كتم الغنا هو اللى حايموتك.

إسعاد يونس  فنانة ومنتجة سينمائية مصرية
التعليقات