روح الشرائع وحُمرة البرلمان - داليا سعودي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 3:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

روح الشرائع وحُمرة البرلمان

نشر فى : الثلاثاء 23 فبراير 2016 - 10:15 م | آخر تحديث : الثلاثاء 23 فبراير 2016 - 10:22 م
فى قاعة الجلسات الكبرى بالجمعية الوطنية مقر مجلس النواب الفرنسى، كانت حمرة الأرائك المخملية أول ما استلفت نظرى. حمرةٌ قانيةٌ بلون الدم الطازج، يزيدها جلال المكان اشتعالا، وتكسبها أنوار النهار لزوجة بصرية مراوغة، فى تدفقها الهادئ عبر السقف الزجاجى العالى.

الأحمر فى رمزيته العامة حمال أوجه يزاوج بين النقائض. فهو لون الحبو الحرب، لون الغواية والخفر، لون السلطة المتعسفة والمقاومة الغاضبة المهتاجة. لكنها كانت مفعمة بالإلهام، تلك الحمرة التى غمرت قاعة النواب بقصر «بوربون»، وسط أعمدة الرخام الرومانية، ومنصة الخطيب المزينة بتمثالى الحرية والنظام، ومن ورائها جدارية رفاييل التى تصور أرباب الحكمة والفلسفة فى آثينا القديمة، موطن الديمقراطية الإغريقية الأولى.

***

ــ لماذا اخترتم لمقاعد برلمانكم هذا اللون المهيب ؟

أجابنى الحاجب بأن الأحمر جاء ليذكر معشر الجالسين على الأرائك من نواب الشعب بأنهم ما كانوا ليتبوأوا مقاعدهم لولا تضحيات جسام بذلها مئات الآلاف من الفرنسيين من دمائهم لكى يتم إرساء دولة قائمة على مبدأ سيادة الشعب فى ظل العدالة والمساواة. «إنه لون الثورة!»، قالها محدثى بعينين لامعتين، ونبرة تفاخر بمجد ثورة طويلة النفس أطاحت بحكام فاسدين، واستأصلت نظاما طبقيا ظالما، وغيرت وجه الحياة فى فرنسا وأوروبا والعالم بأسره، بعد أن ظلت تستكمل أطوارها وتصحح مساراتها وتصارع ثوراتها المضادة لما يربو على مائة وخمسين عاما!

***
وأعود إلى حالنا من رحلة الذاكرة وأتساءل ماذا عنا نحن؟

نحن نستهين باللون الأحمر ونهينه!

نستهين به فنبسطه سجادة حمراء تحت المواكب الرئاسية وسط مطالبات رسمية للشعب بالتقشف، وتحركات تؤذن برفع «الدعم»، وانهيار كارثى لقيمة الجنيه وتفاقم الأزمة الاقتصادية.

نستهين به فنسلطه أضواء حمراء زاعقة على أعمدة معبد أبوسمبل حين يأتينا الرئيس الصينى فى زيارة رسمية، فننتهك مهابة آثارنا ونشوه إرثا حضاريا تغبطنا الأمم على امتلاكه.

نستهين بهو نهينه حين يسفح اللون الأحمر ببساطة وحشية فى شوارعنا، فنجد فينا الأبواق التى تشوه الضحية، ونجد الألسنة التى تلصق دماء الأبرياء بالأبرياء. ونجد كارهى يناير المتشدقين بحديث المؤامرة، والسواعد التى تتطوع بشحذ حافة المقصلة، تمهيدا لردع أى معارضة. ونجد المحامى الذى يدافع عن القتلة، دافعا بأن القاتل «لم تتوفر لديه نية القتل عندما أطلق الرصاص»، وبأنه يا سيادة القاضى «صغير السن حديث العهد بمهنة حمل السلاح». وحين يحكم القاضى ببراءة القاتل، تتناقل وسائل التواصل صورة المحامى الجهبذ وهو ينفث دخان سيجاره الثمين. لسان حاله، وسط ضبابية المشهد وطغيان الرمادى على الأحمر، «الدماء فى بلادنا ليست سواء يا إكسلانس!».

***
وأعود بذاكرتى مرة أخرى إلى حديقة قصر البرلمان الفرنسى، أسير بين أزهار الخزامى الباهرة الجمال، قاصدة أحد المقعدين الخشبيين أمام التمثال الأبيض الجالس فى سكينة فى ظلال شجرة السرو الباسقة.. مرحبا مونتسكيو، يا صاحب كتاب «روح الشرائع» ونظرية فصل السلطات ونداء تحرير العبيد! ولد هذا الفيلسوف التنويرى الكبير لأسرة من النبلاء فى زمن كان فيه الفقير عبدا للغنى، لكن والديه قررا اختيار شحاذ ليكون عرابا لابنهما ليتعلم أنهما فى الإنسانية سواء !

ها هو صوته يأتينى من أواسط القرن الثامن عشر وسط زقزقة العصافير: «أمةٌ ضائعة تلك التى ينفرد فيها رجلٌ واحد، أو ثلةٌ حاكمة بالسيطرة على السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.(..) فإذا ما تماهت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية، ضاعت الحرية: ولاح خطر استصدار قوانين استبدادية لتطبيقها بصورة استبدادية».

وأعود أعانق بناظرى المكان من مجلسى فى حضرة صاحب «الرسائل الفارسية». هنا، داخل هذا القصر، ثمة 577 نائبا للشعب الفرنسى، يتبنون نحو مائة قانون كل عام، وينفقون نحو 1400 ساعة فى مناقشة جميع تفاصيلها بدقة وأناة. لكن قوة مجلس النواب إنما تكمن فى مبدأى الرقابة والمحاسبة. وهما المبدآن اللذان سعى آخر تعديل دستورى لتعزيزهما عام 2008 لتقوية صلاحيات الجمعية الوطنية الفرنسية. بهما تكتمل الممارسة الديمقراطية، وبهما تحترم «روح الشرائع». أين تلك الروح من برلماناتنا المتعاقبة التى احترفت التصفيق والتطبيل وتفصيل القوانين؟

وأقوم من مجلسى، أودع مونتسكيو واستقبل البوابة. لكننى أدور على عقبى، وأتوجه إلى أحواض الأزهار المدهشة، التى لم أر مثلها حتى فى إسطنبول بلاد الخزامى وموطنها. أتأملها من قريب. عجيب أمر تلك الأزهار، ما من واحدة تشبه الأخرى، تنوع باهر فى الألوان ! أما حجمها فيكاد يضاهى حجم وجه الإنسان. يا الله! إنها تبتسم، تضحك، تثرثر، تتثاءب. كأنها أرواح البشر، ملح الأرض، حطب الثورة، عادت تتجسد أزهارا وورود. وتذكرت «وردنا الذى فتح فى الجناين» فى يناير.
فقرأت الفاتحة ومضيت وقد ازددت يقينا بأننا فى يوم ما من المستقبل، ستكون لنا حديقة كهذه، وقصرا كهذا، رغم حكايات الساحرة الشريرة، وحديث المؤامرة، واحتقارنا السافر للون الأحمر. مبعث يقينى هو معرفة عميقة بروح الثورة التى هى فى كنهها طائر فينيق أسطورى رهيب، توقظه المظالم، وتستثيره الانتهاكات و«التجاوزات»، وتغذيه الدماء البريئة المسفوكة على طول دربنا الأحمر الحزين.

هى حقيقة لا مراء فيها...
والأيام بيننا يا إكسلانس !
داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات