بالتيمور الجديدة - نبيل مرقس - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 12:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بالتيمور الجديدة

نشر فى : الخميس 23 فبراير 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : الخميس 23 فبراير 2023 - 8:50 م
«... تمثل «الهوية العرقية» العامل الأهم للتقسيم والتصنيف المجتمعى فى تاريخ مدينة بالتيمور. حيث كانت تعد فى بداية القرن التاسع عشر ثانى أكبر ميناء لاستقبال المهاجرين الجدد فى الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ عام 1870 زاد عدد الأفارقة الأمريكيين فى بالتيمور عن أعداد أية مجموعة عرقية أخرى فى المدينة متعددة الأعراق والإثنيات. وعلى حد تعبير ليروى جراهام المؤرخ الأمريكى، أصبحت بالتيمور فى القرن التاسع عشر «العاصمة السوداء» للولايات المتحدة الأمريكية. وقبيل الحرب الأهلية الأمريكية، ضمت بالتيمور العدد الأكبر من أفراد المجتمع الحضرى الأسود من الأفارقة الأمريكيين الذين تحرروا من نير العبودية».
نبيل مرقس، دور المنظمات الدينية غير الهادفة للربح فى تحقيق المصالحة العرقية ببالتيمور، مركز دراسات المجتمع المدنى بجامعة جونز هوبكنز، أكتوبر 1997.
• • •
كنت أتحسس طريقى فى زيارتى الأولى للولايات المتحدة الأمريكية ولمدينة بالتيمور أكبر مدن ولاية ميريلاند، والتى دامت لمدة أربعة شهور فى بداية عام 1997. أتيت كباحث زائر تحت التدريب فى البرنامج الدولى لدراسات وزمالة «العمل الخيرى» الذى ينظمه مركز دراسات المجتمع المدنى التابع لجامعة جونز هوبكنز الأمريكية، التى أسسها عام 1876 جونز هوبكنز رجل الأعمال وفاعل الخير وعضو طائفة الكويكرز المعادية للحرب وللعبودية. وقد كشفت لى مدينة بالتيمور عن سواد بشرتها ــ مع بعض «النمش الأبيض» – منذ اللحظة الأولى لتعارفنا كزائرٍ غريب من العالم الثالث يطرق أبواب أول مدينة أمريكية يراها فى حياته. ففى أولى خطواتى الخَجْلَى داخل جامعة جونز هوبكنز إحدى أهم مؤسسات المدينة (هى أقدم جامعة بحثية فى الولايات المتحدة الأمريكية، درس فيها للحصول على درجة الدكتوراة فى التاريخ والعلوم السياسية وودرو ويلسون الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة الأمريكية وصاحب مبدأ حق تقرير المصير للشعوب، بينما حاز خريجوها على 27 جائزة نوبل فى مجال الطب والفيزياء والكيمياء والفسيولوجيا ويُعَدُّ مستشفاها التعليمى ذا الشهرة العالمية من المؤسسين للنظام الصحى الأمريكى ولفروع جديدة فى العلوم الطبية)، راعنى سواد البشرة الغالب على السعاة وحارسى الأبواب وعمال النظافة وصغار الموظفين ومن يقومون على خدمة الطلبة والطالبات فى المطاعم والمكاتب والكافيتيريات، بينما يكتسى غالبية العمداء والأساتذة وكبار الموظفين من الرجال والنساء بالسحنة ناصعة البياض.
بدأت أدرك مبكرًا أن لون البشرة فى بالتيمور يحدد هويتك الإنسانية وموضعك فى السلم الطبقى والمهنى، وربما يحدد أيضا مكان سكناك (فى عام 1910 أصدر المجلس المحلى لبالتيمور أول قانون للفصل العنصرى فى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يُحَرَّمْ على ساكنى البلوكات السكنية من السود الانتقال للسكنى فى البلوكات السكنية التى يقطنها البيض). فالفقراء من ذوى البشرة السوداء يتكدسون فى «قلب المدينة» حيث الزحام والفقر والتلوث البيئى وتدهور الخدمات العامة، بينما الأغنياء من ذوى السحنة البيضاء يهرعون إلى «الضواحى» حيث الهواء أكثر نقاءً والأرض أكثر اخضرارًا والفضاء العام أقل تكدسًا وعنفًا وسوادًا (لقلة أعداد ذوى البشرة السوداء الذين أفلتوا من مصيدة الفقر والتمييز العرقى ونجحوا فى الصعود أعلى السلم الطبقى والمهنى ليجدوا مكانًا فى ذلك «الموئل» الاجتماعى والاقتصادى والثقافى البالغ التميز بيئيًا ومعيشيًا والذى يطلقون عليه «الحلم الأمريكى»). بدأت أفهم بعد فترة قليلة أن هؤلاء المقهورين والمهمشين من السود و«اليهود الأرثوذكس» (الذين يؤمنون بتعاليم التوراة ككتابٍ مقدس أنزل على موسى فى جبل سيناء، ويمارسون التعبدوالامتناع عن العمل يوم السبت، ويأكلون الطعام الحلال «كوشير») الذين يعانون معًا من الإقصاء المجتمعى فى الولايات المتحدة الأمريكية (من مظاهر التمييز الدينى ضد اليهود فى الولايات المتحدة الأمريكية فى القرن التاسع عشر: منع اليهود من الإقامة فى مناطق معينة/ منع التحاق اليهود ببعض المهن/ تحديد حصة نسبية لليهود فى الجامعات/ ممارسات منظمة كو كلوكس كلان التى تؤمن بتفوق العرق الأمريكى الأبيض والتى تمارس العداء والكراهية والعنف تجاه السود واليهود والسكان الأصليين والمهاجرين والمسلمين والكاثوليك) يتعاطفون معى كأحد مواطنى ذلك العالم المنهوب والمستضعف المسمى تأدبًا بالعالم الثالث.
فهمت ذلك من الاهتمام الزائد والدعم المخلص المقدم لى ــ منذ اللحظة الأولى لتعارفنا ــ من نعومى مساعدة مدير المركز، وهى الفتاة اليهودية الأرثوذكسية شديدة الذكاء والطيبة والإنسانية (أهدت لى ولزوجتى طبقًا شهيًا من طعام الكوشير الحلال تعبيرًا عن الصداقة والود، وقامت بدعمى فى مد أجل مشروعى البحثى بعد التاريخ المحدد للتسليم برغم معارضة د. سالمون مدير المركز). وأيضًا من خلال النصائح الأخوية الصادقة والمخلصة لأحد الإداريين من الأفارقة الأمريكيين العاملين بالمركز، الذى أبدى اهتمامه بمساعدتى على التواؤم مع نمط الحياة الأمريكية الذى بدا لى غريبًا. ومع ذلك، فقد جاء الصدام مبكرًا مع مدير المركز ــ د. لستر سالمون ــ أحد أهم الباحثين على المستوى الدولى فى دراسات المجتمع المدنى. كان البرنامج التدريبى الدولى الذى صممه د. سالمون وأشرف على قيادته لسنواتٍ طويلة يهدف إلى إثارة إعجاب المتدربين وإقناعهم بأهمية الدور التاريخى الذى لعبه «المجتمع المدنى» بجميع مؤسساته ومرجعياته الأخلاقية المستقلة عن سلطة الدولة ومنطق السوق، فى قيادة عملية التحول الديمقراطى من المجتمع الزراعى التقليدى ذى السلطة الأبوية المستبدة إلى المجتمع الصناعى الحديث الذى يضمن توافر الحريات العامة والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لجميع مواطنيه.
• • •
كان الخلاف الأساسى بينى وبين أستاذى د.سالمون هو تحفظى على التبشير بالنموذج الغربى كنموذج وحيد للتقدم والتحديث، وأيضًا على تقديم «المجتمع المدنى» كأيقونة مقدسة عابرة للتاريخ والحضارات وصالحة للاستنساخ فى كل زمانٍ ومكان. تصاعد ذلك الخلاف إلى ذروته عندما قررت اختيار قضية «التمييز العرقى» كموضوعٍ لمشروعى البحثى وكمدخلٍ لدراسة المجتمع المدنى الأمريكى فى مدينة بالتيمور. فمن جانبى، كان من غير الممكن أن أتجاهل ما أراه حولى من تناقضات المجتمع الأمريكى وصراعاته الداخلية، وأن أتغافل عن قضية «الصراع العرقى» بين المستوطنين الأوروبيين من ذوى السحنة البيضاء والعبيد من الأفارقة السود الذين تم استجلابهم من قارتنا الأفريقية إلى أمريكا قبل إعلان استقلال الولايات الأمريكية الثلاثة عشر عن بريطانيا العظمى عام 1776 بقرنين ونصف من الزمان. وقد جاء فى إعلان الاستقلال الأمريكى فقرةً هامة صاغها توماس جيفرسون ــ أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية ــ عن جريمة «العبودية» (جرى حذفها بعد ذلك من النص النهائى للوثيقة): «... لقد شنَّ حربًا قاسية على الطبيعة الإنسانية ذاتها ممتهنًا أقدس حقوقها فى الحياة والحرية، ممثلةً فى أولئك الأشخاص المسالمين من البلاد البعيدة الذين لم يعتدوا عليه أبدًا. حيث قام بسبيهم واستجلابهم عنوةً فى زمرة العبيد إلى النصف الآخر من الكرة الأرضية، وفرض على بعضهم موتًا بائسًا أثناء ترحيلهم. هذه القرصنة الحربية والسلوك الشائن الكافر بأية عقيدة دينية، كان من صناعة الملك «المسيحى» لبريطانيا العظمى (من مقال Guess Who Insisted on Slavery in Colonial America?، بقلم Nancy Spannaus، بموقع American System Nowفى 31 يناير 2019).
بدا الأمر لى ــ عن صوابٍ أو خطأ ــ وكأنه محاولة من أستاذى د. سالمون لإخفاء إحدى «عورات» التاريخ الأمريكى الحديث والتى تم تجاهلها فى وثيقة إعلان الاستقلال (بحسب المقال المذكور الذى لم أطلع عليه إلا فى أثناء كتابة مقالى هذا). بينما رأيت من واجبى أن أبرز الجهد الأخلاقى والإنسانى لمنظمات المجتمع المدنى فى بالتيمورــ حيث المركز الرئيسى لمنظمة NAAC أهم منظمة مدنية تعمل على تقدم الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية للسود فى الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1909ــ للتصدى لهذه «العورة التاريخية». فاخترت ثلاث مبادرات خلَّاقة قام بها أبناء بالتيمور من البيض والسود، للبحث الجاد عن طريقٍ يحقق المصالحة الإنسانية فى مدينةٍ تجلى انقسامها عرقيًا ومكانيًا واجتماعيًا وثقافيًا. بينما يبرز من خلال هذه المبادرات ملامح «بالتيمور جديدة» قادرة على الحياة والوجود، مدينة «عادلة« متصالحة مع ذاتها ومع مواطنيها.
كانت المبادرة الأولى، هى مبادرة الكنيسة المعمدانية السابعة فى غرب بالتيمور (يذكر أن مارتن لوثر كنج الزعيم التاريخى لحركة الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين من 1955 وحتى استشهاده عام 1968، كان كاهنًا معمدانيًا) نحو خلق مجتمع عادل متصالح إنسانيًا تحت قيادة مشتركة من كاهنٍ أبيض وآخر من الأفارقة الأمريكيين يؤمنون بإمكانية تحقيق المصالحة العرقية فى مجاورةٍ سكنية للطبقة الوسطى متعددة الأعراق تحولت عبر الزمن إلى منطقة عشوائية يسكنها فقراء الطبقة العاملة من الأفارقة الأمريكيين.
والثانية هى مبادرة مشروع Justice الذى دعا إليه خمسة عشر كاهنًا من البيض والسود، ساكنى أحياء قلب المدينة شديدة الفقر والسواد والضواحى شديدة الغنى والبياض. وذلك للحوار المعمق حول مفهوم «العدالة» وعلاقته بمكافحة الفقر والتفكك الأسرى ومناهضة العنصرية. والثالثة هى مبادرة A Call To Community التى قادتها منظمة «العمل بين الأديان من أجل العدالة العرقية» لتفعيل الحوار المجتمعى فى بالتيمور وضواحيها على مستويين متميزين: مستوى القيادات العليا من الإدارة المحلية والمنظمات السياسية والمدنية وأيضًا المنظمات الدينية من المسيحيين واليهود والمسلمين، وعلى مستوى «الجمهور العام« من خلال مائة منظمة مدنية ودينية قاعدية. وذلك حول قضايا وأزمات الفقر والجريمة والعنف والعنصرية والتوتر الاجتماعى، فى سياق البحث عن طرق جديدة لبناء الوعى وإحداث التغيير الاجتماعى والسياسى والثقافى فى بالتيمور المأزومة بانقساماتها المجتمعية وآلامها التاريخية.
جرت المناقشات والفاعليات القاعدية عبر مجموعات «البحث والنقاش» Study Circles، التى تضم كل منها عددًا لا يتجاوز العشرين من البيض والسود من قاطنى الضواحى وقلب المدينة. وذلك لممارسة الديمقراطية التشاركية والعمل الجمعى من أجل بناء «بالتيمور الجديدة» المتصالحة مع ذاتها ومع مواطنيها، والتى توفر قيم العدالة والتكافل لكل مكوناتها العرقية والإثنية والجهوية. وكان مقتل الشاب الأسود فريدى جراى فى 12 أبريل 2015 على أيدى رجال البوليس فى بالتيمور والمظاهرات التى اجتاحت المدينة بعدها والتى أدت إلى إعلان حالة الطوارئ واستدعاء قوات الحرس الوطنى لولاية ميريلاند لوقف أعمال العنف وتدمير المحلات وإشعال النار فى المركبات، ما يشبه الدليل الحاسم على أن «بالتيمور الجديدة« لم تولد بعد. على الرغم من ثقتى التامة أن العديد من أبناء بالتيمور وأعضاء منظماتها الطوعية، لم يتوقفوا للحظةٍ عن الحلم بإمكانية إعادة صُنْعِهَا وخلقها من جديدٍ.
نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات