عن الحقيقة.. و«الهُراء» - نبيل مرقس - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 7:18 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الحقيقة.. و«الهُراء»

نشر فى : الجمعة 29 سبتمبر 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 30 سبتمبر 2023 - 11:07 ص
«يحتاج المجتمع الإنسانى من أجل استمراره، إلى ترسيخ الإدراك العام بالمنفعة غير المحدودة للحقيقة». هارى فرانكفورت
• • •
لفترة قصيرة وعابرة استرعى هارى فرانكفورت، أستاذ الفلسفة المتقاعد من جامعة برنستون، اهتمامًا عامًا وظهورًا على نطاقٍ واسع فى أجهزة الإعلام الأمريكية وبرامج الحوار على المحطات التلفزيونية الكبرى لا يحصل عليه عادةً أهل العلم والفلسفة. كان ذلك خلال عام 2005 بعد نشره كتابه الصغير On Bullshit (عن الهُراء) الذى أصبح من أكثر الكتب مبيعًا فى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ألقى الضوء على ما وصفه وقتها بأنه أبرز سمات ثقافتنا المعاصرة الذى نشارك جميعًا فى صنعه وتكاثره. ويوضح فرانكفورت فى مقدمة كتابه أن ماكس بلاك، أستاذ الفلسفة التحليلية بجامعة كورنيل الأمريكية، هو أول من تصدى لدراسة ظاهرة «الهُراء» فى كتابه The Prevalence of Humbug (تفشى الهُرَاءْ) الصادر فى 1983 عن دار نشر جامعة كورنيل. وقد استخدم بلاك كلمة Humbug المرادفة لكلمة Bullshit ووضع لها هذا التعريف: «هو قولٌ أو فعلٌ مخادع يصعب وصفه بالكَذِب، يتبنى صانعه تعبيرات تتسم بالادعاء وبعدم الاتساق مع ما يؤمن به من أفكار وتوجهات وما يعتمل داخله من مشاعر».
• • •
بينما يرى ماكس بلاك أن الهُراء هى التهمة التى أستطيع بسهولة إلصاقها بالآخرين بينما أرى نفسى بريئًا منها تمامًا، وبالمقابل يؤكد فرانكفورت أن الوقوع فى فخ إنتاج الهُراء هو أمرٌ حتمى عندما تقتضى الظروف والملابسات أن يتصدى أحد الأشخاص ــ التواقين إلى الظهور العام ــ للحديث فى شأنٍ ما دون أن يكون ملمًا تمامًا بجوهر ما يتحدث عنه وبما يتجاوز معرفته بالحقائق الموضوعية المرتبطة بهذا الشأن (وهو ما يبدو شائعًا هذه الأيام فى وسائط التواصل الاجتماعى حيث يتنافس البشر على إنتاج الهُراء المُدَون، والمُسجّل، والمُصَوَّر). وبحثًا عن توضيح أكثر عمقا لهذا المعنى المراوغ، يلجأ فرانكفورت إلى أستاذه الفيلسوف النمساوى الكبير لودفيج فيتجنشتاين حيث يعود إلى شعاره المقتبس من كلمات الشاعر الأمريكى Henry Longfellow:
«فى أيام الفن القديم..
اشتغل البناءون بكل جد وإتقان..
اعتنوا بكل تفصيلةٍ صغيرة من المبنى لا تُرَى للعيان..
لأن الآلهة كانت حاضرة معهم فى كل مكان».
المغزى الكامن فى هذه الكلمات الشعرية ــ بحسب فرانكفورت ــ يشير إلى أن أصحاب الصنعة من الحرفيين العظماء فى جميع المهن، لم يلجأوا إلى اختصار الطريق عبر «الكَرْوَته» (العمل المسلوق دون اهتمام بحسب التعبير المصرى ذائع الصيت) بل بذلوا كل ما استطاعوا من فن وجهد وصبر وإتقان وعناية ممتدة حتى فيما يتعلق بالأجزاء والتفاصيل المعمارية غير الظاهرة للعِيَان فى الكاتدرائيات القديمة الضخمة، وذلك إرضاء لضميرهم المهنى والتزامًا بمعايير الجودة التى استبطنوها داخلهم، لم يُرْخُوا انضباطهم الداخلى ولم يتخلوا عن معاييرهم المهنية الطموحة التى سكنتهم عبر الزمن لمجرد أن هذه الأجزاء من المنتج النهائى ليست للعرض ولن يراها أحد. لم يدسُّوا شيئًا تحت البساط ولم يكن هناك مكانٌ لأى «هُراء»، لأن أعين الآلهة رافقتهم فى كل مكان.
يبدو من هذا الشرح الذى قدمه فرانكفورت، أن ما نطلق عليه وصف «هُراء» يتسرب إلينا عادة من خلال الفجوة الوجدانية التى قد تتسع أو تضيق بين «حقيقة» القائل أو الفاعل منا وبين منتجات قوله أو فعله. وتقدم لنا الفنانة عزة فهمى ــ صانعة الحلى المصرية ــ فى مذكراتها الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية عام 2021، منهجا مضادا لا يسمح لصاحبه بتسرب الهُراء إلى ممارساته. وذلك من خلال الكشف عن تلك العلاقة الوجدانية الحميمة التى تجمع «الحرفى الصغير» بمنتجاته المادية التى يُفْرِغ فيها ذاته ويسكب فى ثناياها بعضًا من روحه وحقيقته أثناء ممارسة إبداعه، فيتماهى معها حبًا وتصير امتدادا حِسّيا لوجوده: «.. هِيّا ممكن تكون مجرد قطعة من المعدن، لكن الحب والاهتمام اللى بتحطه فيها وإنت بتعملها، بياخدوا تلك القطعة إلى مستويات تانية.. وتحس إنها بتتجاوب معاك، وكل ما بتديلها اهتمام بتديلك جمال وفن.. يعنى بتبادلك حب بحب» (ص 136).
• • •
ينتقل بنا هارى فرانكفورت إلى الجانب المُكَمّل لأطروحته عن «الهُراء» ألا وهو أطروحته الأخرى عن «الحقيقة». ففى كتابه المعنون On Truth (عن الحقيقة) الصادر عام 2007، يشاركنا بفهمه العميق عن الحقيقة ليجنبنا السقوط فى أحاجى الهُراء: «ندرك عبر وجودنا فى هذا العالم أننا كيانات منفصلة عما يحيط بها، وذلك من خلال صدامنا المفاجئ مع العوائق التى تمنعنا من ممارسة إرادتنا الحرة. ندرك وقتها بالممارسة أن ما يحيط بنا من أشياء وظواهر وكائنات لا يخضع لإرادتنا ويبدو مناوئًا لمصالحنا، وهو بالضرورة ليس امتدادا لذواتنا بل هو مستقل تماما عن وجودنا. وينشأ لدينا إدراك ما بأن هناك ما يحد من وجودنا وما يبدو ممتنعا عن الخضوع أو الانصياع لنا، وتبدأ ملامح تلك «الحقيقة» الجاثمة خارج ذواتنا والمناوئة لإرادتنا فى الانكشاف والتبلور». ويؤكد فرانكفورت أننا لا نستطيع أن نفصح عن ــ ونتعرف على ــ الطبيعة الخاصة التى تميز كل منّا كذات إنسانية لها هويتها المتفردة، دون الإدراك التام بوجود ذلك العالم المستقل عن إرادتنا الذى يفاجئنا ويلح علينا بحقيقته. ويفرض علينا التعامل باحترام واتضاع مع تجليات هذه الحقيقة. وإذا كانت «الحقيقة» تمثل لنا ذلك السند الهام والركيزة الجوهرية التى نتكئ عليها لندرك ذواتنا كأفراد وكمجتمعات، فكيف لا نهتم بصيانتها والدفاع عنها (فوجئت مع الكثيرين من مشاهدى فيلم «أوبنهايمر» الذى يتابع حياة عالم الفيزياء الأمريكى، روبرت أوبنهايمر، الذى أشرف مع مجموعة من العلماء على إنتاج أول قنبلتين نوويتين ألقتهما الولايات المتحدة الأمريكية على مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين عام 1945، أن الترجمة العربية على الشريط السينمائى قد تعمدت حذف كلمتى «يهودى» و«يهود» ووضعت مكانهما كلمتى «غريب» و«غرباء». وفى 10 أغسطس 2023 كشف ممثل الشركة اللبنانية المسئولة عن الترجمة لموقع The National أنهم اعتادوا على مدى سنوات طوال حذف أية مفردات تتعلق باليهود، لأنها قد تثير حفيظة بعض الأنظمة العربية وبالتالى قد تمنع عرض هذه الأفلام على أراضيها).
• • •
يبدو لنا من كل ما سبق، أن «الهُراء» الذى يتحدث عنه ويحاول الإحاطة به الفلاسفة هارى فرانكفورت وماكس بلاك ينشط داخلنا ومن حولنا ــ فى سياق مجتمعاتنا الإنسانية المتقدمة أو المتعثرة على طريق التقدم ــ عندما تنحسر قيم الحب والصدق والإتقان والإخلاص من نسيج ممارساتنا المهنية والحياتية. وأيضًا حينما يتواطأ الجميع لإخفاء «الحقيقة».. أو يقرروا عن عمد التلاعب بها.
نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات