عن التجلي الأخلاقي للمجتمع المدني - نبيل مرقس - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 11:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن التجلي الأخلاقي للمجتمع المدني

نشر فى : الثلاثاء 23 مايو 2023 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 24 مايو 2023 - 10:56 ص
«يُقَسِّمْ أرسطو علم السياسة الشامل الذى يدرس الإنسان فى علاقاته المختلفة كعضوٍ فى العائلة والدولة والمجتمع إلى أجزاءٍ ثلاثة: الأخلاق، الاقتصاد، السياسة. وهو يرى أن علم الخير الفردى أى الأخلاق هو الأساس لكل الكيانات الإنسانية الهامة. فهى كيانات تقوم على عضوية الأفراد المؤسسين لها، فإن لم يكن هؤلاء الأفراد من العناصر الطيبة فإن الكيان الكلى للعائلة وللدولة وللمجتمع سوف يكون بعيدا عن الكمال. وهو يرى أن العمل على إنضاج الحس الأخلاقى الكامن داخل نفس الإنسان الفرد، يجب أن يسبق فحص ودراسة المبادئ التى يقوم عليها المجتمع الإنسانى العام. وهو بالتالى يضع علم الأخلاق كمقدمة ضرورية لعلم السياسة أو علم الحياة الاجتماعية».
[من مقدمة كتاب The Nicomachean Ethics of Aristotle]
• • •
برغم أن البرنامج الدراسى الدولى لزمالة «العمل الخيرى» بمركز دراسات المجتمع المدنى بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية ــ عام 1997 ــ كان يركز بالأساس على الدور السياسى للمجتمع المدنى فى عملية التحول التاريخى فى الغرب من الملكية المطلقة إلى النظم الديمقراطية الحديثة، فإن مشروعى البحثى فى مدينة بالتيمور قد كشف لى عن ظاهرة «التجلى الأخلاقى» للمجتمع المدنى وعن دور المجتمع المدنى المعاصر فى بناء المجتمعات التى تسودها قيم العدالة والمساواة والتكافل الإنسانى (راجع مقالى السابق فى الشروق بعنوان «بالتيمور الجديدة»).
ويتبنى مايكل إدواردز فى مقدمة دليل جامعة أكسفورد البريطانية عن المجتمع المدنى فى ٢٠١١، التعريف القائل بأنه: «هو المجال المتاح بين الفرد والدولة للتجمع والفعل الإنسانى الحر سعيا نحو تحقيق أهدافٍ جوهرية ذات طبيعة مستقلة نسبيا عن هيمنة الدولة وتحكم السوق». ويرى العديد من الباحثين أن هذا المفهوم يمكن تتبع جذوره التاريخية فى الفكر الأوروبى بالعودة إلى مصطلحى koinonia politike لدى أرسطو الفيلسوف فى أثينا القديمة وsocietas civilis لدى شيشرون رجل الدولة والفيلسوف فى عصر الجمهورية الرومانية. ويرى أرسطو أن ذلك التجمع المستقل للمواطنين الأحرار المتساوين فى الحقوق هو تجمع ذا طابع سياسى وأخلاقى معا، بينما يراه شيشرون كيانا يجسد «الصالح العام» ويحفظ حرية وكرامة أعضائه من خلال ممارسة نمط الحياة المتمدنة المنافية لقيم الاستبداد والهمجية فى آنٍ واحد. ويكتمل هذا المفهوم لدى الفيلسوف الألمانى هيجل الذى يطرح فى كتابه «فلسفة الحق» مفهومه عن المجتمع المدنى كأحد تجليات الحياة الأخلاقية للإنسان فى العصر الحديث. فالإنسان الحديث تتجلى حياته الأخلاقية فى لحظاتٍ ثلاث: حياته الأخلاقية كعضو فاعل فى العائلة، وحياته الأخلاقية كمواطنٍ مسئول فى علاقته بالدولة، وتكتمل حياته الأخلاقية من خلال سعيه وراء مصلحته الذاتية فى شراكة إنسانية متبادلة مع أبناء المجتمع المدنى/البورجوازى الحديث. وهو يرى الدولة فى موضع الكيان الحاكم فى هذا النظام المؤسسى/الأخلاقى.
وبالمقابل يرى جون لوك أحد الآباء المؤسسين للفكر الليبرالى الغربى، أن المجتمع المدنى هو الشكل المتحضر للنظام السياسى الذى يقف على طرفى نقيضٍ مع أشكال الحرية الهمجية والطبيعة البدائية للبشر ما قبل ظهور الدولة الحديثة. بينما يتناول توماس هوبز فى كتابه Leviathan (عام ١٦٥١) الشرعية الأخلاقية والمجتمعية لوجود سلطة الدولة المستندة إلى «العقد الاجتماعى» مع مواطنيها، فالدولة هى من تمنح الحماية لمواطنيها المسالمين مقابل تخليهم طوعا عن بعضٍ من حرياتهم وحقوقهم لضمان العيش المشترك بينهم ومنع «حرب الجميع على الجميع» (نشير هنا إلى ما يحدث حاليا فى السودان الشقيق من صراعٍ مسلح على السلطة وتزايد خطر تفكيك دولة ما بعد الاستقلال بعد إزاحة الحكومة المدنية الانتقالية).
وفى كتابه The Structural Transformation of the Public Sphere (عام ١٩٦٢)، يطرح يورجين هابرماس نظريته عن المجال العام. وهو يرى أن ثقافة «المشاركة فى الجدل العام» التى تتضمن الحق فى التجمع والحق فى التعبير، قد بدأت تاريخيا من مقاهى لندن فى القرن الثامن عشر، ثم امتدت ممارساتها إلى الصحف، نوادى القراءة، والتجمعات الفكرية والسياسية فى أوروبا فى القرن الثامن عشر كثقافةٍ بورجوازية جديدة تتجاوز تقاليد الزمن الإقطاعى الأوروبى. وبرغم انحصار بداياتها فى الدائرة الضيقة لرجال الطبقة الوسطى المدينية، فإن مطالب الحرية وحقوق المواطنة والمساواة قد اتسعت تدريجيا عبر الزمن والمكان لتشمل المرأة والطبقة العاملة وشعوب المستعمرات الأوروبية ما وراء البحار. ويؤكد هابرماس على أن ثقافة «المجال العام» قد أتاحت للمواطنين الأفراد أن يتبادلوا معارفهم وآراءهم فى حريةٍ تامة تُمَكِّنَهُم من التعبير عن أفكارهم وانتماءاتهم الثقافية والعرقية والايديولوجية. وهو يرى أن المجال العام هو جزءٌ عضوى من المجتمع المدنى، يتوافر له نوعان من الحقوق هما حق التعبير عن الرأى والحق فى أن يصبح ذلك الرأى مؤثرا. ويصيغ هابرماس مبدأ آخر يتعلق بالحريات العامة والديمقراطية، وهو مبدأ المناقشة العقلانية الحرة للقضايا السياسية من خلال عملية حوارية نقدية تقوم على العلانية. ويؤكد على أخلاقيات التواصل العقلانى القائم على الصدق والدقة والمسئولية والفهم المتبادل ورفض التطرف العقائدى. وهو يرى أن تَدَخُّل سلطة الدولة للهيمنة على تواصل المواطنين وعلى أداء أجهزة الإعلام يؤدى إلى خلق مجالٍ عام زائف، يغيب عنه الصدق والحوار الديمقراطى والشرعية العقلانية التى تحقق القبول والرضا العام عن طريق الإقناع العقلى لا عن طريق القوة أو الخوف.
• • •
وبالعودة إلى مشروعى البحثى عن «بالتيمور الجديدة» أستعرض فى بقية هذا المقال بعض ملامح التجلى الأخلاقى للمجتمع المدنى فى مواجهة تحديات «الصراع العرقى» فى مدينة بالتيمور. وأبدأ من منظمة NAACP (التحالف القومى من أجل تقدم الملونين فى الولايات المتحدة) المنظمة العلمانية التى أضحت إحدى علامات الضمير الإنسانى الأمريكى. حيث تأسست فى بالتيمور عام 1909، كمنظمة للحقوق المدنية وكمبادرة عابرة للحواجز العرقية والطبقية تسعى إلى ضمان المساواة القانونية والأخلاقية واستيفاء جميع الحقوق السياسية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية للأفارقة الأمريكيين. وقد استخدمت كل أدواتها الإعلامية من أجل تسليط الضوء على مظاهر السقوط الأخلاقى والانفلات القانونى المقترن بجرائم الإعدام خارج القانون للأفارقة الأمريكيين. ففى الفترة ما بين عامى 1882 و1968 تم تنفيذ الإعدام خارج نطاق القانون فى 4743 مواطنا من الأفارقة الأمريكيين من خلال ممارسة الطقس العنصرى الذى ظهر فى القرن التاسع عشر فى جنوب الولايات المتحدة: 'Lynching'. حيث يتولى الغوغاء من البيض المتعصبين القبض على شاب أسود متهم ظلما باغتصاب امرأة بيضاء، ويستمتعون بإنفاذ القانون بأيديهم المتعطشة للدماء.
وقد نشر W.E.B. Du Bois أحد قادة NAACP مقالا مدعوما بالصور يصف فيه عملية ترويع وسحل وحرق الصبى الأسود ــ ذى السبعة عشر ربيعا ــ جيسى واشنطن. الذى عُلِّقَ عاريا على شجرة ليجرى حرقه ببطء وسط حشدٍ من خمسة عشر ألف مشاهد يوم 15 مايو 1916 فى مدينة واكو بولاية تكساس الجنوبية. وترى NAACP فى حادث مقتل الأمريكى الأسود جورج فلويد عام 2020 على أيدى رجال الشرطة فى مينيابوليس، استمرارا معاصرا لهذا الطقس العنصرى البغيض.
وننتقل إلى أحد النماذج الناصعة أخلاقيا لنشطاء المجتمع المدنى فى بالتيمور، وهى مارلين أومانسكى عضو مجلس إدارة منظمة «العمل بين الأديان من أجل العدالة العرقية» التى تبنت مبادرة هامة لتفعيل الحوار المجتمعى حول قضايا الفقر والجريمة والعنف والعنصرية فى مدينة بالتيمور. وتوضح مارلين فى مقابلة بحثية مع كاتب هذا المقال فى أبريل 1997، كيف تكونت لديها أخلاقيات النضال المدنى: «لقد تبنيت اليهودية المُصْلَحَة كمصدرٍ لاختياراتى الأخلاقية.. وتعلمت من التوراة حقوق العدالة والمساواة للغريب النازل بيننا.. ولقد نشأت فى منزلٍ يهودى يمتلئ بالغرباء.. وتعلمت كيف أدعوهم وأستضيفهم وأرحب بهم فى بيتى.. وآمنت بحق «الغرباء» فى أن ينالوا منى معاملة إنسانية كريمة بغض النظر عن لونهم أو عقيدتهم.. وعندما دُعِيتُ أخيرا للتصويت على استبعاد إحدى المنظمات الدينية الأمريكية التى تجمع بين تعاليم الإسلام ومفاهيم القومية السوداء، من الحوار الدائر فى بالتيمور.. رفضت الانصياع إلى تحيزات مجتمعى اليهودى.. وقررت التصويت مع باقى زملائى بعدم استبعاد أية مجموعة دينية أو عرقية من هذا الحوار العام.. وعلى مستوى شخصى للغاية.. فإن بنت شقيقتى متزوجة من شخصٍ أسود.. وقد أنجبا طفلا جميلا مختلط الأعراق عنده عامان.. وهو بمثابة حفيدٌ لى.. وأنا أشعر حقيقة بالرعب، لأننى إن لم أفعل شيئا حول هذا الأمر.. فسوف أتركه يواجه مصيرا صعبا فى عالمٍ يمتلئ بهذا القدر من العنف والكراهية وعدم التسامح».
نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات