عن «الجُرْحِ الفلسطيني» - نبيل مرقس - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 10:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن «الجُرْحِ الفلسطيني»

نشر فى : الأحد 31 ديسمبر 2023 - 7:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 3 يناير 2024 - 7:33 م
صك الانتداب على فلسطين: «مقدمة- لمَّا كانت دول الحلفاء الكبرى قد وافقت على أن يُعْهَد بإدارة فلسطين التى كانت تابعة فيما مضى للدولة العثمانية ــ بالحدود التى تُعَيِّنُهَا تلك الدول ــ إلى دولةٍ مُنْتَدَبَة تختارها الدول المشار إليها تنفيذًا لنصوص المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، ولما كانت دول الحلفاء الكبرى قد وافقت أيضًا على أن تكون الدولة المنتدبة مسئولة عن تنفيذ التصريح الذى أصدرته فى الأصل حكومة صاحب الجلالة البريطانية فى اليوم الثانى من شهر نوفمبر 1917 وأقرته الدول المذكورة لصالح إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، على أن يُفْهَم جليًا أنه لن يُؤْتَى بعملٍ من شأنه أن يضير بالحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة الآن فى فلسطين أو بالحقوق والوضع السياسى مما يتمتع به اليهود فى أى بلاد أخرى، ولما كان قد اعترف بذلك بالصلة التاريخية التى تربط الشعب اليهودى بفلسطين وبالأسباب التى تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومى فى تلك البلاد، ولما كانت دول الحلفاء قد اختارت صاحب الجلالة البريطانية ليكون مُنْتَدَبًا على فلسطين...

ولذلك فإن مجلس عصبة الأمم بعد تأييده الانتداب المذكور يحدد شروطه ونصوصه بما يلى:

▪ المادة الثانية: تكون الدولة المُنْتَدَبَة مسئولة عن وضع البلاد فى أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومى اليهودى وفقًا لما جاء بيانه فى ديباجة هذا الصك وترقية مؤسسات الحكم الذاتى، وتكون مسئولة أيضًا عن صيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بقطع النظر عن الجنس والدين.

▪ المادة الرابعة: يعترف بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها فى الشئون الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الأمور التى قد تؤثر فى إنشاء الوطن القومى اليهودى ومصالح السكان اليهود فى فلسطين ولتساعد وتشترك فى ترقية البلاد، على أن يكون ذلك خاضعًا دومًا لمراقبة الإدارة.

▪ المادة السادسة: على إدارة فلسطين، مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع فئات الأهالى الأخرى، أن تسهل هجرة اليهود فى أحوالٍ ملائمة وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية ــ المشار إليها فى المادة الرابعة ــ حشد اليهود فى الأراضى الأميرية والأراضى الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية».

• • •

من المشاهد التاريخية التى هى بمثابة الدقات الثلاث التى تسبق رفع الستار عن أحداث التراجيديا الفلسطينية المعاصرة، مشهد دخول الفيلد مارشال البريطانى، إدموند ألنبى، فى 11 ديسمبر 1917 إلى مدينة القدس العربية مترجلًا على قدميه معلنًا هزيمة الجيش العثمانى بعد أربعة قرون من تواجده فى المدينة المقدسة ومُبَشِرًا بنهاية الحروب الصليبية (وهو ما يراه المؤرخون تفعيلًا لترتيبات سايكس ــ بيكو الاستعمارية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية). ويأتى بعده مشهد توقيع الدول الأوروبية المستقلة على ميثاق عصبة الأمم فى 28 يونيو 1919، والذى تضمن اعتماد «نظام الانتداب» الذى يضع أراضى الدول المهزومة فى الحرب العالمية الأولى تحت الوصاية. ثم يطالعنا مشهد توكيل مجلس مؤتمر السلام الأعلى للحلفاء المنتصرين ــ فى مدينة سان ريمو فى 25 أبريل 1920 ــ أمر الانتداب على فلسطين إلى بريطانيا. ونفاجأ بحضور وفدٍ يهودى من حاييم وايزمان، وناحوم سوكولوف، وهربرت صموئيل للتفاهم على تفاصيل التسوية النهائية فى الشرق الأوسط.
وفى أول يوليو 1920 نصل إلى ذروة الأحداث بمشهد إعلان بريطانيا نهاية الإدارة العسكرية فى فلسطين وبداية الحكم المدنى (الانتداب)، حيث يطالعنا وجه المندوب السامى البريطانى، السير هربرت صموئيل، المعروف بعقيدته الصهيونية. ويكتمل هذ الخط الدرامى فى 24 يوليو 1922، بتصديق مجلس عصبة الأمم على صك الانتداب على فلسطين. وهى الصيغة الأرقى من الاحتلال السافر التى ابتدعها النظام الدولى الخاضع للنفوذ البريطانى والفرنسى وقتها، لإنجاز الهدف التاريخى الذى تصوره الغرب حلًا للمعضلة الأخلاقية المتعلقة بالاضطهاد الأوروبى لليهود. ويظهر ذلك فى مشهد إعلان دافيد بن جوريون رئيس الحكومة الإسرائيلية المؤقتة فى 14 مايو 1948 قيام دولة إسرائيل كدولةٍ مفتوحة الأبواب للهجرة اليهودية من أرض الشتات.

• • •

ويطالعنا على الجانب المصرى من الأحداث فى 11 مايو 1948، مشهد حصول رئيس الوزراء محمود باشا النقراشى ــ فى جلسةٍ سرية ــ على موافقة البرلمان على دخول الجيش المصرى إلى فلسطين تحت ضغطٍ من الملك فاروق بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة. ويُفَاجَأ اليوزباشى جمال عبدالناصر رئيس أركان الكتيبة السادسة مشاة (وهو ضمن تشكيلٍ عسكرى مصرى يشمل ست طائرات مقاتلة وخمس طائرات نقل وطائرة استطلاع وأربع كتائب من المشاة وأورطة مدرعة وفوج مدفعية ميدان غير مكتمل التدريب جرى تجميعهم على عجلٍ للسفر إلى فلسطين) فى أثناء فحصه للخرائط على القطار المتجه بالقوات المصرية إلى العريش مع زميليه اليوزباشى عبدالحكيم عامر واليوزباشى زكريا محيى الدين، بأن هناك مئات الكيلومترات التى يلزم احتلالها بقواتٍ غير مكتملة الإعداد والتجهيز فى مواجهة المستعمرات اليهودية المحصنة.
ويمدنا عبدالفتاح أبو الفضل (الذى شارك كضابط مشاة فى هذه الحرب) فى كتابه «كنت نائبًا لرئيس المخابرات» بوصفٍ لهذه المستعمرات: «كانت تشكل جزر مقاومة دفاعية حصينة تحمى بعضها بعضًا بواسطة نيران المدفعية، وكلٌ منها كان محاطًا بأسلاكٍ شائكة وألغام كموانع دفاعية منشأة على أحدث النظم الدفاعية العسكرية آنذاك». وعندما يصل عبدالناصر إلى موقع كتيبته المتمركزة فى رفح يجدها فى أوضاعٍ معنوية بالغة الصعوبة، بعد أن منيت بخسائر كبيرة فى الضباط والجنود فى أثناء هجومها على مستعمرة الدنجور الحصينة. ويحاول عبدالناصر أن يرفع من الروح المعنوية لأفراد كتيبته بتلافى الأخطاء التى حدثت فى معركة الدنجور، فيشرع فى القيام بكل أعمال الاستكشاف وجمع المعلومات اللازمة لضمان النصر فى المهمة القتالية التالية. وفى أثناء استكشافه لموقع «الصوافير» يفقد زميلًا عزيزا وشجاعًا من ضباط الكتيبة. ثم يجد فى تضارب وتناقض الأوامر الصادرة بخصوص احتلال بلدة «جوليس» سببًا لثورةٍ عارمة تجتاحه على كيفية إدارة هذه «الحرب السياسية»، التى يديرها أصحاب المصالح فى الداخل ويتحكم فى مسارها صناع القرار الدولى فى الخارج، ليساق إليها المصريون مشاةً بلا دروع أمام مواقع محصنة: «وعدت إلى مركز رياستنا وخواطرى ثائرة على كل شىء... ثائرة على أنه بمحض الصدفة فقط نجونا من كارثة محققة وهى محاولة الدخول إلى مصيدة جوليس... ثائرة على معلوماتٍ قيمة تضمها صور التقطها الطيران فوق هدفٍ كنا سنهاجمه ومع ذلك فما من أحدٍ فكَّر فى إرسالها إلينا... وثائرة على الذقون الحليقة الناعمة والمكاتب المريحة المرتبة فى مبنى القيادة العامة ولا أحد فيها يدرى بماذا تحس القوات المحاربة فى الخنادق ولا مدى ما تعانيه» (من كتاب عبدالله السناوى «يوميات جمال عبدالناصر فى حرب فلسطين»).
ويصاب عبدالناصر وهو داخل حمالة مصفحة أثناء معركة الاستيلاء على مستعمرة «نجبا»: «... وفجأة أحسست بشعورٍ غريب... والتفت فوجدت صدرى كله غارقًا فى الدماء.. وأدركت على الفور أننى أصبت... دخلت طلقة فى صدرى ناحية القلب... وأخرجت منديلى من جيبى أحاول أن أوقف النزيف... لم أكن خائفًا.. ولم أكن نادمًا.. ولم أكن حزينًا... ومرت أمام ذاكرتى وعيناى مغمضتان.. مرت مشاهد كثيرة كأنها شريطٌ من الرؤى المتدافعة.. الأحلام والآمال.. الطفولة والصبا والشباب.. الأسرة والبيت وابنتىّ تلعبان فى حجرتهما.. تنظيم الضباط الأحرار والخطر المحيط به.. تجربة الميدان ومتاعبها وأهوالها.. جنودنا وضباطنا والأعمال التى قاموا بها حتى الآن رغم كل ما أحاط بهم».
وينجو عبدالناصر من الإصابة فى صدره بمعجزةٍ إلهية، كما يرى الطبيب الجراح الذى أنقذه. ويعود إلى كتيبته السادسة ويعيش معهم حصار «جَيْبِ» الفالوجة وعراق المنشية مع قائده الباسل الأميرالاى سيد طه الملقب بالضبع الأسود. ويشهد الجميع للضبع الأسود بالحنْكَة والصمود ورفض الاستسلام، ولعبدالناصر بالشجاعة وهدوء الأعصاب والقرارات القتالية الدقيقة والفعالة فى سياق تنظيمه الدفاع عن عراق المنشية فى أثناء تعرضهم للقصف الجوى المتواصل بالقنابل الثقيلة وزحف الدبابات الإسرائيلية (الذى يكاد يشبه الموقف فى غزة هذه الأيام). ويعود عبدالناصر إلى مصر حاملًا فى صدره وفى وعيه جُرْحًا فلسطينيًا غائرًا، يُخْرِجَه من معركة الفالوجة المُحَاصَرَة إلى معركة تحرير مصر ــ مع زملائه من الضباط الأحرار ــ من كل القيود التى تحاصرها وتعوق نهضتها.

ويستفيق الكثيرون مِنَّا على المشاهد المُرَوِّعَةِ فى غزة والضفة بعد أحداث 7 أكتوبر الماضى، وتشتعل المظاهرات الغاضبة فى شوارع العالم وتفيض مواقع التواصل الاجتماعى العربية بالبكائيات الجديدة، ويبحث أصحاب صك الانتداب المشئوم فى أدراجهم القديمة عن صكوكٍ جديدة... بينما الجُرْحُ الفلسطينى الغائر... مازال فاغرًا فاه.. ينتظر!
نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات