الأزمة السودانية.. محاولة للفهم - أماني الطويل - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأزمة السودانية.. محاولة للفهم

نشر فى : الإثنين 2 مارس 2009 - 2:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 10 مارس 2009 - 6:35 م

 تقول نظريات الإعلام الحديثة إن تدفق المعلومات والأخبار لا يعنى بالضرورة الإلمام بصورة واقعية عن حدث ما، بل إن تدفق هذه المعلومات ربما يكون سببا رئيسيا فى التشويش والالتباس وفقدان المقدرة على الإمساك بتفاصيل الصورة وحقيقة الأوضاع.

وربما يصدق ذلك على مجريات الأزمة السودانية الراهنة، التى تعد أكثر عناوينها شهرة وذيوعا هى المطالبة برأس الرئيس السودانى عمر البشير فى المحكمة الجنائية الدولية.. كما لا يخلو الأمر من مواجهات مسلحة فى دارفور أو مدن جنوبية كملكال وأبييى. وبينما تكشف تصريحات من أطراف الصراع السودانى فى عواصم العالم عن انقسام مخيف يفتح السودان على سيناريوهات الانفلات وعدم الاستقرار، الأمر الذى ينعكس على القاهرة بضغوط هائلة ويصل بالأمن القومى المصرى إلى مراحل متقدمة من الانكشاف والتهديد.

إن الخيوط المتشابكة والتقاطعات الإقليمية والدولية تفرض هنا محاولة للربط والتدقيق بين الأحداث ورسم صورة للتحالفات حتى تتضح المخاطر أمام الرأى العام.

الملمح الأهم فى هذه الأزمة هو القرار المرتقب للمحكمة الجنائية الدولية فى 4 مارس القادم، والذى يتحدد فيه مصير رئيس الدولة فى السودان بعد اتهامه فى يوليو الماضى بالمسئولية عن ارتكاب جرائم حرب فى دارفور وإبادة جماعية بحق قبائل منتمية إلى أصول أفريقية (الزغاوة والمساليت).

هذا التحرك من جانب المجتمع الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا تحت مظلة الأزمة الإنسانية الماثلة فى دارفور يجىء مكملا لتوظيف آلية مجلس الأمن، الذى أصدر 21 قرارا بشأن الصراع فى دارفور تحت مظلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والذى لا يخلو من توظيف سياسى يعد أعلى مراحل الضغوط على نظام الحكم فى السودان، بأهداف إزاحة النخبة الحاكمة أو على أقل تقدير إضعافها إلى الحد الذى يسمح بوجود بدائل من المرجح ألا تنتمى إلى القوى السياسية القومية أو الديمقراطية، بل يعطى فرصا أعلى لممثلى ما اصطلح على تسميتهم بقوى الهامش ذات الأجندات العرقية أو الجهوية.. كما أن هذا التحرك الدولى يمثل نقطة صدام فاصلة بين دول العالم الثالث المنضوية تحت لواء الجامعة العربية والاتحاد الأفريقى ومنظمة المؤتمر الإسلامى الذين يطالبون بإعطاء فرصة للحل السلمى فى دارفور، وذلك باستخدام المادة 16 من ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية لتجميد القرار لمدة عام.. وهو مطلب لا يسقط إقرار مبدأ العقاب على الانتهاكات التى جرت فى دارفور والتى من الممكن أن تجرى، إما بتفعيل القضاء السودانى بشروط استيفائه لشروط النزاهة والعدالة وبذلك يمكن أبطال اختصاص المحكمة الجنائية فى نظر الادعاء طبقا لميثاقها، أو أن يتم الأخذ بمناهج العدالة الانتقالية التى سبق تجريبها فى جنوب أفريقيا والتى كان لها أكبر الأثر فى تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة.

الضغوط الدولية الراهنة يجد فيها زعماء الفصائل المسلحة فى دارفور فرصا هائلة للقفز على الحكم وتحقيق أغراضهم السياسية.. من هنا دلف ثلاثة من هؤلاء عبر البوابات الإقليمية والدولية كى يقدموا أنفسهم كبدائل، وهما د. خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة الذى أعلن أنه سيكون يد الجنائية الدولية فى تقديم البشير إلى المحكمة فى حال صدور قرار التوقيف. وانتظارا لهذا القرار رفض أن يوقع على اتفاق إطارى فى الدوحة مع الحكومة السودانية مؤخرا وتم استبداله باتفاق حسن نوايا، لم يسمح بأكثر من تبادل للأسرى والمعتقلين بين الجانبين.. والثانى هو عبدالواحد محمد نور زعيم حركة تحرير السودان، والمنتمى إلى قبيلة الفور، الذى قرر أن يدلف إلى تحقيق أغراضه من البوابة الإسرائيلية فيعلن من إسرائيل أنه سيفتح لها سفارة فى الخرطوم إذا قدر له أن يصل إلى سدة الحكم.. والثالث أركو منى ميناوى مساعد رئيس الجمهورية السودانى بموجب اتفاق أبوجا المعقود فى مايو 2006 والذى يعلن حرمانه من صلاحياته ليل نهار ويدعو القاهرة إلى لم الشمل الدارفورى تمهيدا لتسوية سياسية. إلى جانب هؤلاء هناك عشرات الفصائل المسلحة فى دارفور التى انشقت عن هؤلاء الثلاثة خلال مراحل أزمة دارفور منذ عام 2003

على الساحة الجنوبية هناك ملمح آخر للأزمة المحتدمة فى السودان حيث شكلت استحقاقات معاهدة سلام نيفاشا المعقودة بين شمال وجنوب السودان فى يناير 2005 معضلة ممتدة، وذلك باعتمادها على توازنات سياسية حرجة عكست منهجا أمريكيا فى المحاصصة ولم تتعاط مع المشكل السودانى بمنظور شامل.. ومنذ هذا التوقيت تعانى الحركة الشعبية أحد طرفى حكومة الوحدة الوطنية فى السودان من أمرين، الأول التهميش وافتقاد الصلاحيات، ولعل مشهد مائدة المفاوضات فى الدوحة الخالى من أى طرف جنوبى آخر المؤشرات على هذه الحالة، أما الأمر الثانى فهو تعطيل إصدار القوانين اللازمة لتهيئة الأجواء للانتخابات.. وفى المقابل غالبا ما تضع الحركة الشعبية فى الجنوب نفسها فى خانة المعارض للتوجهات السياسية لحزب المؤتمر الوطنى فى إطار حكومة الوحدة الوطنية، وذلك فى الموقف من المجتمع الدولى وآليات التعامل معه، وكذلك فى التعاطى مع التفاعلات السياسية الداخلية.. وقد انعكست هذه الحالة المأزومة على الأرض فى اشتباكات مسلحة بين الطرفين فى مدينة أبييى على الحدود بين شمال وجنوب السودان، أسفرت عن نزوح سكانها البالغين 50 ألف نسمة وتدمير المدينة بالكامل، حينما اختلف الطرفان على ترسيم هذه الحدود فى مايو الماضى، وتم اللجوء إلى التحكيم الدولى فى نهاية الأمر.. كما نشب صراع مسلح بينهما أيضا فى مدينة ملكال مرتين أوقع العشرات من القتلى انعكاسا لمشكلة إدماج القوات والميليشيات الجنوبية التابعة للشمال فى جيش التحرير الشعبى.. وتبدو هذه الأحداث إيذانا بانفصال بين الشمال والجنوب من ناحية، وفرصا لنشوب صراعات مسلحة جنوبية ــ جنوبية من ناحية أخرى.

أما الأحزاب القومية السودانية والقوى الديمقراطية غير المسلحة فتبدو فى حالة انكشاف هائل بانقساماتها الداخلية وعجزها عن بلورة خطاب سياسى جاذب، وأيضا بالضغط الحكومى والأمنى عليها وذلك فى وقت تتعدد التسريبات عن وجود ميليشيات مسلحة تابعة لرموز الحكم السياسى فى الخرطوم ستكون مهامها الدفاع عن نظام الحكم فى حال تهديده، إضافة لامتلاك حزب المؤتمر الشعبى بزعامة د.حسن الترابى ـ المسجون حاليا على خلفية ترحيبه بتحركات الجنائية الدولية ومطالبته الرئيس البشير أن يسلم نفسه ـ لأدوات قد يكون من بينها السلاح ضد النظام.

التعقيد المركب فى هذا المشهد هو الانقسام والتنافسية السياسية بين الأطراف وعدم وجود وحدة فى الموقف الداخلى إزاء ضغوط المجتمع الدولى، والمترتبة على إصرار حزب المؤتمر الوطنى على مواجهة هذه الضغوط وحيدا تمسكا بالسلطة من ناحية، وحماية لمكوناته من ناحية أخرى، وذلك بعد أن توسع كثيرا فى استخدام الآليات العسكرية فى محاولة لحسم الصراع فى دارفور.

وإذا كان الفاعل الدولى ممثلا فى الإدارة الأمريكية السابقة مسئولا عن تعقيد الأزمة فى دارفور ووصولها إلى مراحل متقدمة من التأزم، تبدو الإدارة المصرية وهى تقدم الإسناد إلى مؤسسة الدولة فى السودان خوفا من انهيارها، قد تأخرت أولا فى إدراك خطورة أزمة دارفور فى مرحلة مبكرة من اندلاعها، وبالتالى تأخرت فى التفاعل مع رموزها بما سمح بأدوار إقليمية سبقت أدوار القاهرة.. كما تبدو راهنا مرتبكة إزاء إمكانية لم الشمل الدارفورى فى أجواء الإدارة الأمريكية الجديدة، حيث سمحت القاهرة لقطر أن تقود جهود الوساطة رغم أنها مهندس المبادرة العربية التى تتحرك قطر تحت مظلتها.. وتسعى القاهرة الآن إلى مقعد القيادة مرة أخر ى بما يكشف عن قصور فى الرؤية والحركة معا.

أماني الطويل  خبيرة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
التعليقات