لم تضيع جماعة المحافظين الجدد وغلاة المشايعين لليمين الإسرائيلي وقتا حتى بدأت في فتح النيران على الرئيس الأمريكي الجديد اوباما. لم يصوبوا نيرانهم صراحة ضد سياسته التي أعلن فيها عن فتح صفحة جديدة مع العالم العربى والإسلامي، فنيرانهم على هذه السياسة سيأتي وقتها إن لم يكن قد أتى بالفعل بانتقادهم لتعيين جورج ميتشل مبعوثا للشرق الأوسط...
كانت النغمة الأساسية التي اتبعوها في هجومهم هي العمل على تصوير سياسات اوباما بأنها ستضر بالأمن القومي الأمريكي، بل قاموا بتحميله المسئولية عن ضياع القاعدة الأمريكية الجوية فى قرجيستان وعن نجاح روسيا فى تأسيس قوة انتشار سريع مع ستة جمهوريات سوفيتية سابقة، ثم تحميله المسئولية عن إطلاق إيران لقمر صناعي في الفضاء!!! إلى آخر هذه الاتهامات التي رغم تهافتها إلا أنها تعطى مؤشرا عما يعدونه في الأيام القادمة.....
لم ترهب هذه الطلقات اوباما إذ لم تمر أيام حتى وقف يتحدث أمام الاجتماع المشترك لمجلسي الكونجرس في خطابه عن حالة الاتحاد يوم 24 فبراير ليؤكد إصراره على موقفه في إتباع سياسة الحوار وأن التمسك بالقيم لا يعنى الضعف، وأنه لمدعاة للفخر أن يعلن رئيس أمريكا الآن أن بلاده لا تمارس التعذيب....
يأتي ذلك كله في أعقاب حرب إسرائيل الوحشية ضد غزه وتداعياتها الإقليمية والعربية والفلسطينية وفى أعقاب الانتخابات الإسرائيلية التي ستأتي بحكومة يمينية إن لم تكن حكومة عنصرية لتجعلنا نتوقف أمام المشهد الحالي ليس فقط فيما يطرحه من تحديات أمام الدبلوماسية المصرية ولكن أيضا فيما يطرحه من فرص لتلعب مصر دورا إقليميا رئيسيا اكبر من ذي قبل؛ فمصر هي الوحيدة من بين الدول الإقليمية في المنطقة التي تتوافق سياستها مع الرغبة فى إيجاد حل طال انتظاره لمشكلة الصراع العربى الفلسطيني الإسرائيلي وطرح رؤى لتحقيق الأمن في المنطقة فضلا عن لعب دور هام فى حل أو تهدئة الصراعات الأفريقية وخاصة في السودان وقضية دارفور المطروحة بقوة على الساحة الأمريكية.
يأتي أوباما وهو واعِ للعلاقة بين التحديات التي يواجهها اليوم فى العالم وبين السياسات الظالمة والخاطئة التي اتبعتها إدارة بوش فى السنوات الثماني الماضية، والتي أدت إلى استعداء العالم الإسلامي، فأصبحت بلاده تواجه اليوم عالما إسلاميا متوترا تتفجر فيه حروب بدءا من وادي سوات في باكستان مرورا بأفغانستان والعراق وحرب إسرائيل على غزه، كما يشهد التوتر الأمني الناتج عن الطموحات النووية الإيرانية المتلازمة مع التسلح النووي الإسرائيلي.
في هذا المشهد كله تستطيع مصر أن تطرح رؤية إقليمية قائمة على نقطتين أساسيتين:
أولهما انه قد آن الأوان للتوصل إلى حل شامل للصراع العربى الإسرائيلي على أساس إقامة الدولة الفلسطينية و التوصل إلى السلام على الجبهة السورية الإسرائيلية، و في كل ذلك تقدم المبادرة العربية التي أقرتها قمة بيروت المنطلق الأساسي لهذه الرؤية.
ثانيهما الاتفاق مع أوباما في رؤيته لعالم بلا أسلحة نووية و هو ما يشمل بالضرورة أن يكون هناك شرق أوسط بلا أسلحة نووية و فى هذا تكون مبادرة مصر لجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية هي المنطلق أو الإطار الفكري الذي يتم فيه التعاون بين البلدين في هذا الشأن .
قد يعتقد البعض إننا عندما نتحدث عن تعاون يستهدف الوصول إلى عالم بلا أسلحة نووية إننا نتحدث عن أمر خيالي ... واقع الأمر أن أكثر السياسيين الأمريكيين الذين اشتهروا بأنهم سياسيون واقعيون و مؤمنون بمفهوم ال real politic مثل هنري كيسنجر و جورج شولتز, قد أصبحوا اليوم يطالبون بإلحاح بالعمل على تحقيق هذا الهدف الذى تبناه الرئيس أوباما، أي عالم بلا أسلحة نووية فما هو المانع من أن تطرح مصر رؤيتها بالنسبة للتهديدات النووية في الشرق الأوسط كجزء من التهديدات النووية في العالم ككل وهي التي كانت البادئة بالمناداة بجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية.
ولعله من المفيد مراجعة مقال هنري كيسنجر بمجلة نيوزويك يوم 16 فبراير و مقال محمد البرادعي في الهرالد تربيون يوم 17 فبراير، ومن المعروف أن مثل هذه الأفكار الكبرى وإن لم تتحقق في المدى القصير أو المتوسط فإنها تحفر تيارا فكريا سياسيا على المدى الطويل, و ما هو المانع فى أن تتعاون مصر مع أوباما على تحقيق عالم بلا أسلحة نووية حتى ولو كان ذلك حلما بعيد المنال؟ فالتعاون مع هذا الرئيس الجديد على أرضية مشتركة سيخلق في حد ذاته أساسا لإقامة علاقة صحية معه ومع إدارته بغض النظر عما يتحقق أولا يتحقق من الأهداف الكبرى.
لا تقتصر آفاق الحوار مع إدارة اوباما على قضايا السلام والأمن في الشرق الأوسط بل تشمل أيضا قارتنا الأفريقية التي تحتل أولوية كبيرة في أجندة أوباما والمجتمع الأفريقي الأمريكي ذي القوة الصاعدة على الساحة السياسة الأمريكية. وقضية دارفور على راس هذه القضايا، مع ما هو معروف من تأثيرها على الأمن القومي المصري، و والواقع أننا لن نستطيع أن نقوم بدور فعال في حل نزاعات السودان و مشاكله ما لم تكن لنا القدرة على التأثير على الموقف الأمريكي وترويضه بما يتفق مع الواقع بدلا من انغماسه في مواقف متصلبة مثلما هو الحال في قضية اتهام الرئيس البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية.
هذا الدور الكبير الذي يمكن للدبلوماسية المصرية أن تطمح إليه يتطلب أن تعمل مصر على أن تكون لها قنوات مع كافة القوى في المنطقة كما تتطلب قدرا من الصبر الذي يرتفع بها عن الصغائر، فقد كانت أحداث غزة اختبارا لمصر وخرجت مصر من هذه الأزمة بصلابة وبرؤية واضحة في خطها الاستراتيجي وهى تتجه الآن إلى تهدئة مصادر التوتر بعد أن هدأت الأعصاب. و خيراً فعلت أن دعت سوريا للحضور في شرم الشيخ.. يتطلب هذا الدور الكبير المتماشي مع مواقفنا أيضا قبولا منا بالدور التركي المتماشي مع مواقفها واستعدادا للحوار مع إيران، فإذا كانت الدول الغربية نفسها تتحاور مع إيران فلماذا لا نتحاور نحن أيضا مع إيران ؟ بل لعلنا نقوم يوما بالانضمام إلى القوى العالمية التي تتحاور مع إيران حول ملفها النووي.
من المتوقع أن تتعرض دبلوماسية اوباما لعقبات وضغوط كبيرة مضادة، وستكون من أهم العقبات التي سيواجهها وجود حكومة إسرائيلية يمينية كتلك التي سيشكلها نتانياهو ولكن في نفس الوقت لن يكون من السهل على نتانياهو أن يبتز أوباما كما ابتز كلينتون...وكما حاول أن يفعل مع جيمس بيكر وزير خارجية بوش الأب في أوائل التسعينيات وذلك أن قوة أوباما تكمن في تواصله مع الشعب الأمريكي وقد اثبت التاريخ انه كلما كان الرئيس الأمريكي مسنودا من الشعب كلما كان أقدر على الصمود أمام اللوبي اليهودي.
إن المرحلة المقبلة حبلى بالتحديات كما هي حبلى بالفرص... ونثق في أن الدبلوماسية المصرية قادرة على أن تستشف الفرص قدرتها على مجابهة التحديات.