كما رأى إبراهيم الأخرس أنّ نقطة التحوّل التاريخية فى الصين تمثّلت بانتهاج بعض آليات السوق، وبخاصّة عند افتتاح المُدن والمناطق الاقتصادية؛ بحيث شكَّل ذلك إيذانا بولادة سياسة النفعية البراغماتية لدى القيادة الصينية فى نهاية القرن العشرين. وقد تجلّت السياسة البراغماتية، إبّان قيادة الرئيس الصينى زيمين، فى تنشيط التجارة، والاستثمار الأجنبى، والمعلوماتية، والقروض والمساعدات من الهيئات الدولية المانِحة، والعمل على نقل التكنولوجيا من الخارج، واكتساب المهارات الإدارية فى الداخل. وكانت تلك الإنجازات ضرورية للارتقاء بالصين إلى مصافّ الدول المُتقدّمة.
لكن من أبرز الذين وصفوا التجربة الصينية بأنّها اشتراكية ذات خصائص صينية، السفير السورى السابق محمّد خير الوادى، الذى أكَّد أنّ الرئيس الصينى دينغ شياو بينغ أثبت أنّ آليّة السوق أو آليّة التخطيط هما أسلوبان مختلفان لتنظيم الاقتصاد وتحسين قدرة الإنتاج الاقتصادى، وأنّ اقتصاد السوق قائم فى المجتمع الاشتراكى أيضا، ويُمكن، بل يجب، تطبيق اقتصاد السوق فى الدولة الاشتراكية للاستفادة من مزايا الرأسمالية لكى تخدم الهدف النهائى لتحقيق النهضة الصينية.
وهنا تشير الكاتبة للتباين الإيديولوجى الواضحٌ فى فَهم النُّخب العربية لطبيعة التجربة الصينية. فقليل منهم اعترف بطبيعة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وذهب أكثرهم إلى أنّ الاشتراكية فقدت الكثير من مبادئها أثناء مراحل الإصلاح والانفتاح. وبما أنّ اقتصاد السوق مرتبط بالرأسمالية، فقد ترسَّخ فى ذهن بعض الناس أنّ إصلاح دينغ شياو بينغ سيقود الصّين إلى الرأسمالية. وعلى أرض الواقع، كما قال الزعيم دينغ نفسه، تبيّن أنّ اقتصاد السوق ليس رأسماليا لأنّ هناك أسواقا فى ظلّ الاشتراكية أيضا. غير أنّ الصين تمسّكت بالطريق الاشتراكى، حيث تبقى الملكية العامّة هى الغالِبة إلى جانب تطوّر الملكيات المتنوّعة الأخرى والتوزيع فى سوق العمل، وحيث يتمّ تعايُش أنواعٍ من التخصيصات، مثل تخصيص المواد على قاعدة نظام السوق، والتنظيم الرائد من جانب الدولة الصينية التى تتمسّك بالتنمية السلمية سعيا لبناء عالَم مُتناغِم. فالصين ما زالت تتمسّك بالنظرية الاشتراكية ذات الخصائص الصينيّة، وهى دولة اشتراكية بكلّ معنى الكلمة.
***
ذهب طارق فارس إلى أنّ الإصلاح المتدرِّج سمة من أهمّ سمات التجربة الصينية. فالإصلاح فى الصين بدأ برأيه من الريف إلى المدينة، ومن الاقتصاد إلى السياسة، ومن اقتصاد التخطيط المركزى إلى اقتصاد السوق. وقد تمَّ، بشكل متدرِّج ومرحلى وتجريبى، توسيع نطاق الإصلاح من منطقة إلى أخرى، ومن قطاع إلى آخر. ومارست الصين عملية الإصلاح وفقا لسياسة متدرِّجة قائمة على المراحل، ومن دون القفز فوقها.
برأى إبراهيم الأخرس، إنّ الحكومة القويّة هى من الخصائص المهمّة للتجربة الصينية، حيث قامت التجربة الاقتصادية الاشتراكية الصينية على أساس الاعتماد الكامل على الدولة فى المجالَيْن الاقتصادى والاجتماعى. ومع تحوّل الصين نحو الإصلاح والانفتاح، بدأت مرحلة جديدة من إعادة البناء والتحوّل إلى اقتصاد السوق الاشتراكية. هكذا أضافت الصين بُعدا جديدا إلى دَور الدولة فى ترشيد أدائها وتحسينه. ولمّا كان وجود الدولة ضروريا لاستمرار الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ الدولة القوية ضرورة لا غنى عنها حتّى فى ظلّ اقتصاد السوق. ولا تزال الدولة الصينية القويّة تلعب دورا إيجابيا ونشيطا وفعّالا.
على جانبٍ آخر، ذهب بعض الباحثين العرب إلى أنّ الإصلاح السياسى الحذِر هو من الخصائص المهمّة للتجربة الصينية. فأشاروا إلى أنّ الإصلاحات السياسية فى الصين طُبِّقت بحذر شديد لأنّ الإصلاح السياسى يتطلّب فترة انتقالية لزيادة مساحة الديمقراطية. فالدول المتخلّفة اقتصاديا غالبا ما تسودها نُظم دكتاتورية. فى حين أنّ ثمّة علاقة سببيّة بين التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية. فكلّما زادت مساحة التنمية الاقتصادية زادت مساحة الديمقراطية، لأنّ النُّظم الديمقراطية لا تنشأ أو تتطوّر إلّا فى المجتمعات المتقدّمة اقتصاديا.
ثمّة مَن اعتقد أنّ الاعتماد على الذّات خاصّية من أهمّ الخصائص الصينية أيضا، حيث تتمّ السياسات الصينية فى إطار رؤية تنموية شاملة، تلعب فيها الدولة دورا قوياًّ وإيجابيّا. لذا اعتمدت الصين سياسة الانفتاح بإرادة مستقلّة وليس تحت ضغوطٍ خارجية كما حصل فى بعض الدول النامية. وتمّ توظيف الاستثمارات الأجنبية بشروط الصين، وليس بشروط الأجانب. والصين قادرة على اتّخاذ مواقف مستقلّة فى القضايا الدولية، ولم تتحوّل كغيرها من الدول الآسيوية إلى دولة تابعة. الأمر الذى ساعد على تحقيق هدف الصين فى التنمية.
نخلص إلى القول إنّ آراء الباحثين العرب عن خصائص التجربة الصينية كانت موضوعية بشكل أساسى، لكنّ بعضهم أهمل خصائص مهمّة فى هذه التجربة، وذلك نتيجة عدم استخلاص الحقيقة من تحليل الواقع الصينى نفسه، والذى يُشير إلى التحسّن الذى أدّت إليه التجربة الصينية فى مستوى معيشة الشعب الصينى فى جميع مناطق سكنه.
***
أما فيما يخص الباحثين العرب تشير الكاتبة أن غالبيّتهم يُجمِعون على أنّ الصين والدول العربية تنتمى إلى دول العالَم الثالث كما تنتمى إلى الدول النامية. ولأنّ ثمّة الكثير من القضايا المُماثِلة بين هذه البلدان، فإنّ تجربة الصين بنظرهم تقدِّم نموذجا جديدا للتنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمجتمعات دول العالَم الثالث، يُمكِن للدول النامية، ولاسيّما الدول العربية، الاستفادة منها. وتتجلّى أهمّية التجربة الصينية عند الباحثين العرب فى أنّها يُمكن أن تُحدِث تغيّرات مهمّة فى النظام الدولى. فأكّد عدد من الباحثين العرب أنّ تعاظُم القدرات الاستراتيجية للصين، وتنامى إمكاناتها الكونية، باتتا حقيقتَيْن راسختَيْن لا يمكن التغاضى عنهما، وذلك على المستويات الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية والثقافية كافّة. لذلك، يغدو احتمال ارتقاء الصين إلى مكانة كونية مرموقة تعيد التوازن للنظام الدولى الذى اختلّ فى العقدَين الماضيَين احتمالا واردا بشكل كبير، بحيث قد يُحدث ذلك تبدّلات مهمّة فى النّظام الدولى، بتحويله من نظام القطب الواحد إلى نظام متعدّد الأقطاب. وتبرز أهمّية التجربة الصينية أيضا فى أهمّية القوّة الصينية الناعمة التى اعتمدتها الصين لتعميق فهم العرب للتجربة الصينية.
تختتم الكاتبة بأن الصين باعتمادها على جاذبية تجربتها، تحرص على مُعالَجة العديد من القضايا العالمية. وتبرز أهمّية تجربتها فى أنّها ساعدت الصينيّين أوّلا على التخلّص من الفقر، وحقَّقت ثانيا النهضة الصينية فى فترة زمنية قصيرة نسبيّا. فهذه التجربة قامت فى دولة نامية يختلف نموذجها عن مثيله فى الديموقراطية الغربية اختلافا كبيرا. ويُمكن لبعض البلدان النامية، ومنها الدول العربية، الاستفادة منها، لكن مع التنبّه إلى أنّه لا يمكن نقلها إلى بلد آخر. لذا يتعيَّن على كلّ بلد إيجاد نموذج تنموى يتوافق مع ظروفه الخاصّة.
النص الأصلي