طمع العباد فى عفو الله لا حدود له، ورغبتهم فى الفوز بمرضاته لا تتعارض لديهم مع ارتكاب الموبقات والجرائم، فاللص وهو يتسلل من أجل السرقة يقول: استر يا رب، والزانى وهو يتسلل لمخدع محرّم يتمتم بآيات يرجو أن تقيه شر أولاد الحرام الذين يهم بالعدوان على عرضهم!
فى مطار دولة عربية قريبة كان مدير المحطة المسئول عن تسفير الركاب بشركة الطيران يتحرك بهمة ونشاط من أجل إنجاز المهمة المعتادة بجعل الطائرة تقلع فى الميعاد. كان ضغط العمل كبيرا فى الأيام السابقة لأن رحلات الحج تختلف عن غيرها من حيث امتلاء الطائرات وعدم وجود مقاعد خالية وكذلك من حيث كمية العفش التى يحملها الركاب والتى تقتضى دقة فى تحميلها وتوزيعها على مخازن الطائرة. كان المدير يعانى كثيرا بسبب الأحمال الثقيلة التى يصطحبها الركاب معهم من أطعمة ومشروبات سوف يتم حتما إلقاؤها فى الزبالة عند الوصول، وكان يشعر بالحرج نتيجة عدم قدرته على تحميل كل الحقائب واضطراره إلى وضع بعضها على الرحلة التالية مع ما يؤديه هذا الإجراء من مشكلات واضطراب وهرج ومرج فى مطار الوصول بجدة، وكذلك مشكلات مع أهالى الركاب الذين يتم الاتصال بهم من جدة فيهرعون إلى مطار هذه الدولة يصبون غضبهم على مدير المحطة الذى تسبب فى تأخير حقائب ذويهم وتكدس الركاب هناك فى انتظار الحقائب.
لم يعد العمل فى هذا المطار مريحا أو آمنا بعد الثورة التى أطاحت برئيس هذا البلد.
الحالة الأمنية سائلة والميليشيات المسلحة تفرض أحيانا كلمتها على الدولة، وكل رحلة طيران أصبحت مغامرة.
وزاد على ذلك موسم الحج الذى أقبل فضاعف العمل وأضاف إلى مشاكله المعتادة مشاكل الحجاج الذين لا يلتزمون بتعليمات السلامة الجوية ولا متطلبات الطيران المدنى الدولى.
انتهى صاحبنا من الإشراف على صعود الركاب وانتقل إلى أرض المطار يتابع صعود البضائع والحقائب. كل شىء تم بحمد لله وأغلقت المخازن والطائرة ستتحرك بعد قليل.
أدهشه صوت أزيز محرك سيارة خشن قادم من بعيد ينهب الأرض.. سيارة دفع رباعى كبيرة الحجم تسير بأرض المطار على الممر المخصص للإقلاع والهبوط، ثم تتوجه بسرعة كبيرة صوب الطائرة ضاربة عرض الحائط بكل إجراءات السلامة فى المطارات.
وعندما دنا السائق وأصبح اصطدامه بالطائرة وشيكا ضغط مكابحه بقوة فزحفت السيارة وأحدثت إطاراتها صوتا زاعقا قبل أن تتوقف على بعد سنتيمترات من الطائرة.
قبل أن يفيق صاحبنا الذى تجمد من الرعب ترجّل من السيارة شاب فى العشرينيات من العمر تبدو على ملامحه الشراسة والغضب ويحمل على كتفه مدفعا رشاشا وسأل: أنت المدير هنا؟
أومأ صاحبنا بالإيجاب وهو يزدرد ريقه بصعوبة. قال الشاب: أمى معى فى السيارة وأريدك أن ترسل من يحمل حقائبها لأنها ستسافر معكم لأداء فريضة الحج!.. قال جملته ببساطة وكأن هذه طريقة معتادة لتسفير الركاب. تمالك المدير نفسه واستوعب الموقف قبل أن يرد: هل لديكم حجز على هذه الرحلة وأوراقكم كاملة؟.
رد الشاب: ليس لدينا تذاكر ولا أوراق، لكن معى هذا، مشيرا إلى سلاحه. قال المدير: يا عزيزى مستحيل أن تسافر والدتك بهذه الطريقة. زمجر الشاب ووضع يده على الرشاش قائلا: لقد وعدت أمى بأن أسفرها إلى الحج ولن أسمح لطائرتك هذه بالتحرك قبل أن تكون أمى داخلها.
قال هذا ثم أردف: إذا لم تسافر أمى فلن يسافر أحد، فركابك هؤلاء ليسوا أكثر حبا لرسول الله منّى ومن والدتى، وإذا كنت تريد ما لا يمكننى أن أجرد مَن أشاء من ماله وحليه وأجلبه لك فى الحال.
ضحك المدير رغم دقة الموقف وقال: هل تريد أن تسلب الحجيج أموالهم لتبعث بأمك إلى الحج؟ رد الشاب: وأقتل إن اضطررت من أجل الوفاء بوعدى لوالدتى لأننى أحتاج بشدة إلى دعائها وهى تطوف بالكعبة!.
قال صاحبنا: ما أجمل برّك بوالدتك.. كلنا نحتاج إلى دعاء أهلينا فى الحرم الشريف ولكن يا عزيزى دعنى أشرح لك الموقف.. أنا عن نفسى يشرفنى أن تكون والدتك معنا على الرحلة فنتبرك بخطواتها الطاهرة، لكن المشكلة لا تتعلق بتذكرة وحجز وفلوس ومقعد خال على الطائرة..كل هذا رغم ضرورته يمكننى تدبيره وهو يدخل فى صميم عملى، أما الذى لا أضمنه فهو ما سيحدث بعد الهبوط على الجانب الآخر. عندما يجدونها بدون جواز أو تأشيرة فإنهم سيعيدونها على نفس الطائرة ولن يسمحوا لها بالدخول والوصول إلى الكعبة.
نظر إليه الشاب فى تشكك وهو يسأل: أتقسم برسول الله على صحة ما تقول؟ أجاب: أقسم بالله ورسوله وملائكته أن هذا ما سيحدث إذا وضعناها على الطائرة الآن.
قال هذا ثم أضاف: أيها الشاب الطيب.. اذهب للقنصلية السعودية واحصل على تأشيرة وسنكون فى انتظارك المرة القادمة على الكاونتر وليس فى المهبط لنحظى بوالدتك معنا بشكل طبيعى.
بدا على الشاب رغم الإحباط وخيبة الأمل أنه اقتنع فمضى إلى سيارته وأخذ أمه مغادرا المكان من حيث أتى دون أن يستوقفه أحد أو يعترض طريقه أحد، أما مدير المحطة فقد ابتعد عن الطائرة حتى يسمح لها بالتحرك قبل أن يأتى راكب آخر على ظهر دبابة!