قناع بلون السماء.. تحلق بالأسير الفلسطيني في سماء الحرية إلى الأبد - بوابة الشروق
الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 12:30 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

قناع بلون السماء.. تحلق بالأسير الفلسطيني في سماء الحرية إلى الأبد

إيمان صبرى خفاجة
نشر في: الجمعة 3 مايو 2024 - 6:50 م | آخر تحديث: السبت 4 مايو 2024 - 4:44 ص

إذا كان هناك لشيء قدرة في هذا الكون على التحليق في سماءه والوصول إلى أبعد حدوده عدا الطيور، فهو الأدب، هي الكلمات التي تستطيع أن تحمل الرسالة الإنسانية وتبلغها ولا يمكن لأحد أن يمنعها مهما بلغت قوته من أداء هذا الدور الخالد.

وقد تجلى هذا الدور الإنساني الفريد حين تم الإعلان منذ أيام عن فوز رواية قناع بلون السماء للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي بجائزة البوكر العربية في دورتها السابعة عشر لهذا العام 2024.

ولا يكمن الاحتفاء بفوز رواية فلسطينية في هذا التوقيت الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 200 يوم من الحرب والتهجير والتنكيل بهم على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي فقط، لكن هناك بعد آخر فصاحب الرواية أسير في سجون الاحتلال منذ عام 2004 على خلفية تفجير سوق الكرمل.

سجن باسم وهو يبلغ من العمر 15 عام، أكمل دراسته واكتسب خبراته الحياتية بين غياهب السجن ومرارة الأسر الذي قرر الاحتلال أن يكون مدى الحياة، حكم أخرج من صدر باسم الكلمات كالطيور الجارحة التي تعرف كيف تتحايل على شباك الصياد وتهرب لتحلق بعيدا عنه، فكانت العديد من الأعمال الأدبية التي كتبها وهربها من السجن لتكون ملاذ للهرب من واقع الأسر وتذكرة للأحرار بالقضية الفلسطينية التي أصبحت اختبار يومي لضمير العالم.

ومنذ أن تم الإعلان عن ترشحه للقائمة القصيرة أتخذ الاحتلال ضده العديد من الإجراءات التعسفية بمنعه من الكتابة، والكثيرين يخشون عليه الآن أكثر بعد التتويج، فلا حدود لإجرام هذا الكيان الصهيوني، فعن ماذا يكتب باسم ليثير كل هذا الذعر في قلوب قوة عسكرية غاشمة تملك من الوحشية والقوة العسكرية الكثير؟!

لا يكتب باسم في هذه الرواية كما توقع البعض عن الأسر وعذابات السجون، وهذا التصور قطعا وليد ارتباط سيرته الشخصية كأسير بسيرته كروائي، فق وصل الحد بالبعض من الأصدقاء التخوف من قراءة الرواية تجنبا لمرارة الحكايات فيكفيهم ما نشاهده يوميا ونقرأ عنه، لكن باسم كان على العكس تماما من ذلك وهنا تكمن الخطورة فقد تحدى عذابات السجن ومرارة الأسر بالكتابة عن ما هو أهم، عن تاريخ القضية الفلسطينية منطلقا من العصر الحالي، عن تاريخ المدن والقرى التي حاول الاحتلال لسنوات إخفاء معالمها والتعتيم على جرائمه في حق أهلها، فإذا بها تعود للحياة من جديد تخرج حرة وتقفز على الخارطة الإنسانية لتأخذ مكانها مرة أخرى وكأن شىء لم يكن من تاريخ الإحتلال.
يكتب باسم عن الواقع والتاريخ ويطرح المزيد من الإشكاليات فإذا بالرواية تمثل خطورة حقيقية من خلال أحداثها الحية، حكايتها التي تعيشها كل أسرة فلسطينية، يكتب عن حياة المخيم، عن المقاومة بين الماضي والحاضر، من خلال الصديقين نور ومراد.

أعتاد نور ومراد التجول يوميا في شوارع مدينتهم بين المخيمات التي تشهد على مأساة أجيال كاملة من الفلسطينيين أصبحوا يتوارثون الحياة فيها وكأنها خلقت لهم ومعهم وهذا جزء من الحقيقة، فقد كانت مدينتهم فيما سبق لا تعرف مأساة المخيم ولا اللجوء والحصار داخله.

حول الاحتلال طرق مدينة رام الله يوما بعد يوم إلى سجن كبير يظنون أنهم يضعون الفلسطينيين داخله والحقيقة على العكس من ذلك فنحن من يسجنهم داخل مدينتنا ويحاصرهم في كل مكان يضعوننا فيه، فهذا الحصار المشدد لهذا الشعب وتتبعه ووضعه في السجون لا يعني سوى الخوف من وجودهم الذي لا ينتهي ولا يستطيعون القضاء عليه بالرغم من قوتهم العسكرية العاتية وأكاذيبهم التاريخية التي لا يملون من تكرارها.

وإن لم تكن هذه حقيقة لا شك فيها، فبما نفسر إذا حملات الاعتقال العشوائية اليومية التي تحدث في شوارع المدن الفلسطينية والتي كان ضحيتها مراد الذي تم اختطافه من صديقه نور في واحدة من جولاتهم اليومية دون أن يعرف أي منهم سبب لذلك، وتلك الحادثة نموذج لما يحدث يوميا فكل أسرة فلسطينية لها ابن أسير في سجون الاحتلال شهدنا عملية تبادلهم وإطلاق سراح البعض منهم خلال الفترة الماضية.

يوضع مراد في أحد السجون ليحرم من جولاته ومدينته وصديقه الوحيد، ومن تبادل الأحلام التي حملها نور على عاتقه، يفتح السجن ل مراد آفاق بعيدة بالمزيد من البحث والقراءة في الكتب التي يمررها نور له في كل زيارة ويمرر مراد من خلالها رسائل مكتوبة لصديقه يستأنف بها الحديث عن الأحلام والخلافات أيضا فيما بينهم.

أحد هذه الخلافات هي حلم نور الأبدي بكتابة رواية عن مريم المجدلية وحكايتها مع المسيح وتلامذته ما بين الحقيقة والأسطورة، وما تحمل من أوجه، وما لها من أهمية وبعد تاريخي من تاريخ القدس ومدنها العريقة، وطالما كان الخلاف بين الصديقين في حث مراد لصديقه نور أن يترك الماضي جانبا ويركز جهده على الحاضر لعلنا نجد الحلول للخلاص من قبضة هذا الاحتلال الغاشم.

في هذا الجزء يطرح الكاتب أول موضوعات الرواية وهي الخلافات حول تناول القضية من زاوية التاريخ أم الواقع، والإجابة التي تكمن بين صفحات الرواية أن الحاضر والماضي وجهان لعملة واحدة، فكيف تضحض ادعاءات الاحتلال دون المزيد من البحث التاريخي، وكيف يمكن أن تحارب ما تواجهه القضية يوميا دون إدراك إشكاليات هذا التاريخ ما بين الادعاءات الدينية وحقيقة هوية المحتل ورغباته السياسية؟!

وكيف يمكن ل نور أن يتجاهل التاريخ وهو دارس له ومولع بالآثار كما أن التاريخ القريب منه على الأقل هو ما شكل شخصيته وفيه تتبلور معاناته الشخصية بجانب نكبته التريخية، وهنا يذهب بنا الكاتب إلى معاناة أخرى تتلخص في شخصية مهدي والد نور أحد قادة ومناضلي الانتفاضة عام 1988 التي دفع ثمنها بسنوات من الأسر ليخرج في أعقاب اتفاقية أوسلو التي تم توقيعها بين قوات الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية 1993، يصطدم بواقع يفقده الثقة في كل شئ فإذا بزوجته قد فارقت الحياة، وأمه وابنه اليتيم على قارعة الطريق يعانون الفقر والعوز.

يرفض مهدي أن يتلقى أية معونات خاصة بعد أن شاهد رفاقه يتمتعون بمزايا تاريخهم النضالي على حساب معاناة شعبهم، فيلقي بذلك الكاتب الضوء على وجه آخر من أوجه تخبط المقاومة.

انعكست هذه المرارة التي تلخصت في صمت مهدي وقسوته على نور فاضطر الأخير للعمل منذ نعومة أظافره في بيوت ومدن الكيان الصهيوني حتى استأنف دراسته كاملة وصولا إلى المرحلة الجامعية وقد ساعده على ذلك ملامحه التي تبدو للبعض وكأنه يهودي اشكنازي، تلك الملامح التي تفتح باب آخر من أبواب الرواية على أحد أهم موضوعاتها ومنها قدرته على الهرب من ملاحقات الأمن اليومية للعمالة الفلسطينية!
تخرج نور ولم يجد فرصة سوى العمل كمرشد سياحي في إحدى الشركات التي تستقبل الوفود من كافة أنحاء العالم للتجول في الأراضي الفلسطينية يستمعون للرواية والأكذوبة الإسرائيلية حول المدن والقرى التي قاموا بتطهيرها عرقيا وزراعة الأشجار فيها، فمكان كل شجرة يوجد أثر لشهيد!

كانت واحدة من هذه الجولات في قرية صرعة التي هجر أهلها في يوليو عام 1948 وأقيم على أطلال منازلها مستعمرة ترعا، يدعي الإحتلال أن هذه القرية قرية شمشون بطل أساطيرهم، يرفض نور أن يكرر الأكذوبة على مسامع الأفواج السياحية وإذا به يحدثهم عن تاريخ القرية ما قبل النكبة مشيرا إلى منزل المختار الذي مازالت بقاياه شاهدة على ما حدث ومقام الشيخ سامت الذي كان يتبارك به أهل القرية ومازال في مكانه لم يبرحه حتى الآن.

تنتهي الجولة بنور هارب ومطارد من قبل قوات الاحتلال ليتحول إلى أسير هو الآخر لا يفارق المنزل، ويتحرك خلسة بين شوارع المخيم حتى تأتي الصدفة التي تعطيه حرية مطلقة، حين يعثر على بطاقة هوية تحوله إلى أور الشاب الإسرائيلي سليل العائلة الارستقراطية.
هذه الهوية تفتح الأبواب أمام نور للالتحاق بصفوف العمل لدى معهد ألبرايت للأبحاث الأثرية بالتعاون مع سلطة الآثار الإسرائيلية في موسم من مواسم التنقيب ضمن مشروع وادي يزراعيل الإقليمي جنوب تل مجدو.

في البداية كانت الالتحاق بهذا العمل فرصة ل نور لمزيد من البحث في تاريخ مريم المجدلية وتحصيل معلومات تاريخية تفيده في كتابة الرواية من الناحية الجغرافية والتاريخية، فإذا بنا أمام تاريخ قرية أخرى من القرى التي نكبت وهجر أهلها، ففي ال 30 من مايو عام 1948 احتلت قرية اللجون الفلسطينية وتم تهجير أهلها بالكامل وبناء مستوطنة بالقرب منها بالإضافة إلى سجن شهير عرف باسم سجن مجدو شيد على أطراف القرية وكأنه يحاصرها ليطرح الكاتب مرة أخرى سؤاله، من منا يحاصر الآخر؟! فأهل القرية ممن قتلوا مازالت أجسادهم تحت ترابها والأحياء يصرخون بالكلمات من داخل السجن المحيط بها!

قد تبدو القرية للوهلة الأولى لمن يقرأ عنها واحدة من مئات القرى الفلسطينية التي تم الاستيلاء عليها بقوات الهجانة التابعة للكيان الصهيوني في ذلك الوقت ضمن مخطط تغيير هوية هذه القرى بالخلاص من أهلها، وذلك ما حدث بالفعل على يد الحملة العسكرية المعروفة باسم جدعون، لكن التاريخ الذي شهدته القرية له أبعاد أخرى ضاربة في أعماق التاريخ، فقد استولى عليها الصليبيون لسنوات حتى استردها جيش صلاح الدين عام 1187، وللقرية تاريخ آخر يربطها بالحضارة الفرعونية المصرية القديمة!

الغريب في حملات التنقيب التي ينظمها الاحتلال بين فترة وأخرى أنها تجمع باحثين من كافة أنحاء العالم وحين يصدمون بنتائج البحث في باطن الأرض التي لا تخرج لهم سوى أدلة تاريخية على الوجود العربي الفلسطيني، أو رفات الشهداء من أهالي القرى والمدن، يتحول الباحثين إلى شهداء على كذب ادعاءاتهم ومن ثم وجودهم، تماما كما يحدث في المشهد الحالي، يقتلون الأطفال ويهدمون المدن على مرأى ومسمع من العالم فيصبح شاهد على الجريمة ويعلو الصوت الفلسطيني أكثر ولا ندرك حدود لصداه.

لكنهم يصرون على التزييف بالمزيد من المبررات الواهية والعدوانية بل وأدعاء أنهم ضحية، وقد تمثل هذا الصوت في شخصية أيالا الفتاة الإسرائيلية التي تبرر جرائمها بأنها لا تعرف سوى هذه الأرض لكن الفلسطيني له أراض أخرى يمكنه أن يعيش في أي دولة عربية مجاورة، وهذا مخطط آخر نعايشه الآن!

كما أنها مثال لسيناريو آخر وهو الظهور كضحية في استشهادها بمأساة اليهود التاريخية في الحرب العالمية الثانية، وتستند في أحداث الرواية على أحداث حي الشيخ جراح التي جاء بها الكاتب كخلفية تاريخية معاصرة لأحداث الرواية، والتي رأت أيالا فيها تهديد لأمنها والحقيقة كانت على العكس من ذلك، فهي محاولة مستميتة للمزيد من التهجير للقرى والأحياء الفلسطينية.

تستمر حملات التنقيب ويستمر الاصطدام بالمزيم من القرى المنكوبة التي يكشف عنها البحث أمام أنظار العالم، كقرية أو شوشة المنكوبة التي تقع شرق مدينة الرملة وحدثت بها مجزرة تاريخية في 14 مايو 1948، ومن ثم كشف هوية الكيبوتس التي بنيت على أرضها، التي أكتشف نور أثناء جولته فيها أسباب رفض صديقه مراد أن يطلق عليها ذلك المسمى فهي مستعمرة، فهذه الكلمة تأكد على أهداف وهوية الوجود الصهيوني كمحتل، وهنا يدرك أن المسميات التي يدرسها مراد ويتحدث عنها هي عنصر هام لكشف الهوية الحقيقية للمستعمر.

كما يطرح هذا الجزء خلافات دينية وعرقية وتساؤلات حول الهوية والانتماء في حوار داخلي يخلقه الكاتب بين نور وأور بالرغم من أنهم كيان إنساني واحد في جسد واحد، ومن منهم يتغلب على الآخر، ويكشف كم هم أغراب عن بعضهم البعض ولا يمكن الاتفاق والتلاقي، فلا يمكن لنور أن يصبح ذلك الفتى الإسرائيلي بالرغم من أنه يحمل هويته وتكاد ملامحهم تتطابق.
على العكس من ذلك يأتي نور ومراد بالرغم من السجن وأسواره التي تباعد فيما بينهم واختلاف الملامح هم واحد، هم باسم خندقجي فقد وضع الكاتب لنفسه تصورين داخل السجن وخارجه، وهنا يتجلى الهدف من عنوان الرواية فنور ومراد كل منهم قناع للآخر لكنه قناع شفاف حقيقي، قناع بلون السماء.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك