في ظل التحديات الجيوسياسية المتصاعدة وتزايد التوترات مع قوى عالمية كبرى، تعود مسألة الاستقلال الصناعي والاقتصادي إلى الواجهة كأحد أبرز مقومات الأمن القومي. وبينما تواجه الولايات المتحدة اختبارات حقيقية في قدرتها على الاستجابة للأزمات العسكرية الممتدة، تبرز السياسات التجارية كأداة استراتيجية تتجاوز الأبعاد الاقتصادية البحتة.
ويقول المحلل الأمريكي ألكسندر بي. جراي الذي شغل منصب رئيس موظفي مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض خلال الفترة من 2019 إلى 2021، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست إنه في إعلانها الأخير عن رسوم "يوم التحرير"، قدّمت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدة تبريرات لإعادة الولايات المتحدة إلى أعلى مستوياتها التراكمية من الرسوم الجمركية منذ العقد الأول من القرن العشرين. فقد تحدّث الرئيس، عند فرضه لرسوم جمركية شاملة بنسبة 10%، بالإضافة إلى رسوم جمركية متبادلة إضافية على العديد من الدول، عن الرغبة الأمريكية الأساسية في تحقيق العدالة. وقد دفعت الرسوم الشاملة، التي تم تعليقها مؤقتا الآن، عشرات الدول إلى طاولة المفاوضات سعيا لإبرام اتفاق عادل مع الولايات المتحدة.
ويرى جراي أن استعادة قطاع صناعي قوي، محمي بسياسات تجارية سليمة، سيعود بفوائد اجتماعية واقتصادية ملموسة على المجتمعات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة.
ويقول إن هذه الحجج تعد وجيهة ومهمة، ويملك الأمريكيون من مختلف التوجهات السياسية مصلحة مشتركة في نجاح جدول أعمال الرئيس دونالد ترامب التجارية. ومع ذلك، فإن الحجة الأهم لدعم رسوم ترامب تتمثل في الأمن القومي، فبدون سياسة جمركية تعيد توجيه القدرة التصنيعية بشكل جذري نحو الداخل الأمريكي، لن يكون الجيش الأمريكي قادرا على خوض صراع طويل الأمد مع خصمه الأكثر احتمالا، أي الحزب الشيوعي الصيني. فبرنامج ترامب الجمركي ليس مجرد خيار سياسي، بل هو ضرورة لضمان أمن وسلامة الولايات المتحدة في العقود القادمة.
ويقول جراي إن الأرقام تُظهر واقعا صارخا، فمنذ عام 1997 وحتى عام 2024، فقدت الولايات المتحدة ما يقرب من 5 ملايين وظيفة صناعية، أي ما يعادل انخفاضا بنسبة 30% تقريبا في التوظيف بهذا القطاع. وأدّى هذا التراجع في القدرة الصناعية الأمريكية إلى تقويض قاعدة الصناعة الدفاعية بشكل مباشر. ففي قطاع الصلب، الذي يُعد حيويا لكل شيء من السفن إلى الدبابات، انخفض معدل استخدام الطاقة الإنتاجية المحلية إلى 3ر75% في عام 2023، بعد أن بلغ ذروته المؤقتة عند 80% في عام 2021. أما الألمنيوم، وهو مادة أساسية أخرى، فقد تراجع معدل استخدام طاقته الإنتاجية من 61% في عام 2019 إلى 55% في عام 2023. وتعكس هذه الانخفاضات اتجاها أوسع، فقد أصبحت الولايات المتحدة تعتمد بشكل متزايد على سلاسل التوريد الأجنبية، مما يجعلها عرضة للصدمات الجيوسياسية ولخصوم يملكون السيطرة على مدخلات حيوية.
ويضيف جراي إن حرب أوكرانيا كشفت هذه الثغرات بوضوح قاس. فمنذ عام 2022، قدمت الولايات المتحدة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 182 مليار دولار، شملت قذائف مدفعية وصواريخ وأنظمة متقدمة مثل منظومة باتريوت للدفاع الجوي. وقد شكل هذا الجهد ضغطا هائلا على القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية حتى وصلت إلى حافة الانهيار. فعلى سبيل المثال، واجهت خطوط إنتاج قذائف المدفعية من عيار 155 مليمترا صعوبة في مواكبة الطلب، واضطر الجيش الأمريكي إلى زيادة الإنتاج من 14 ألف قذيفة شهريا في عام 2022 إلى ما يُتوقع أن يبلغ 100 ألف قذيفة شهريا بحلول أواخر عام 2025، وهو رقم لا يزال غير كاف لتلبية احتياجات أوكرانيا مع تعويض النقص في المخزونات الأمريكية. واعترف البنتاجون بأن إعادة تعبئة المخزونات المستنزفة قد تستغرق سنوات، وهي رفاهية لا يمكن تحملها في حال اندلاع صراع أكبر.
والآن، لننظر إلى الوضع في تايوان. فالجزيرة تُعد حجر الأساس في استراتيجية الولايات المتحدة لسلسلة الجزر الأولى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتعتمد اعتمادا كبيرا على الأسلحة الأمريكية لردع غزو محتمل من الحزب الشيوعي الصيني. ففي عام 2024 وحده، اشترت تايوان أسلحة أمريكية بقيمة 19 مليار دولار، شملت مقاتلات (إف 16) وأنظمة الصواريخ "هيمارس". ومع ذلك، فإن القاعدة الصناعية نفسها التي تدعم أوكرانيا هي المكلفة أيضا بتنفيذ هذه الطلبات، ما أدى إلى تراكم التأخيرات. فعلى سبيل المثال، تأخرت عمليات تسليم طائرات (إف 16) إلى تايوان بسبب اختناقات الإنتاج. وإذا كانت الولايات المتحدة غير قادرة على تسليح كل من أوكرانيا وتايوان في الوقت نفسه، فماذا سيحدث إذا قرر الحزب الشيوعي الصيني التحرك ضد تايبيه؟ إن صراعا حقيقيا مع الصين سيكون أكبر بكثير من التحديات الحالية، وسيتطلب ليس فقط الذخائر، بل أيضا السفن والغواصات والإلكترونيات المتقدمة، وكلها تعتمد على قاعدة صناعية قوية لم تعد موجودة لدى الولايات المتحدة.
وتقدم الغواصة "يو إس إس كونيتيكت" مثالا مرعبا على ذلك. ففي أكتوبر 2021، اصطدمت هذه الغواصة الهجومية بجبل بحري تحت الماء في بحر الصين الجنوبي، ما أدى إلى تعطيل أحد أكثر الأصول البحرية الأمريكية تطورا. وكانت التقديرات الأولية تشير إلى أن الإصلاح سيستغرق 18 شهرا، لكنه امتد الآن إلى عام 2026، بسبب نقص في العمالة الماهرة والمكونات المتخصصة، التي تعتمد العديد منها على موردين أجانب. واضطرت الغواصة إلى الإبحار على سطح الماء عبر المحيط الهادئ إلى آخر حوض إصلاح سفن متبق قادر على إجراء مثل هذه الصيانة. ويرى جراي إنه في أي حرب مع الصين، حيث ستكون الهيمنة البحرية في المحيط الهادئ حاسمة، فإن خسارة الغواصات، وهي أحد أبرز مزايا الولايات المتحدة البحرية، بسبب فترات إصلاح طويلة، قد ترجّح كفة الميزان. وإذا تكرر ذلك عبر أسطول يعاني من التمدد والضغط، فإن المخاطر تصبح وجودية.
ويقول جراي إنه يمكن لمفاوضات الرسوم الجمركية التي يقودها ترامب أن تعكس هذا التراجع من خلال إعادة التصنيع إلى الأراضي الأمريكية. فالهدف هو تحفيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على المدخلات الأجنبية التي قد تنقطع في وقت الأزمة. ويقول المنتقدون إن ذلك سيؤدي إلى زيادة التكاليف، وربما يكونوا محقين على المدى القصير. لكن العائد طويل الأجل والمتمثل في استعادة قدرات القاعدة الصناعية الدفاعية يبرر كل دولار يُنفق، فهذه تكاليف سيتم تعويضها من خلال الأرواح التي سيتم انقاذها في أي صراع محتمل.
ويرى جراي أن ردع الصين يتطلب أكثر من مجرد الكلام الخطابي، إنه يتطلب القوة الصلبة لقاعدة صناعية دفاعية يجري تجديدها. فبناء الحزب الشيوعي الصيني لجيشه يعتمد على آلة تصنيعية ضخمة ساهمنا نحن في تغذيتها من خلال عقود من نقل التصنيع إلى الخارج. وتسعى رسوم ترامب، من خلال إعادة الإنتاج إلى الداخل، إلى استعادة هذه الأفضلية. أما البديل ، وهو مواجهة صراع تقوده الصين بقاعدة صناعية أمريكية منهكة، فهو أمر لا يُحتمل التفكير فيه. إن حرب أوكرانيا واحتياجات تايوان تشكلان إنذارا واضحا. فالرسوم الجمركية هي الرد الضروري لضمان استعداد أمريكا لردع خصومها والدفاع عن مصالحها.