«الشروق» تنشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «7» - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:40 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الشروق» تنشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى «7»

كتب - خالد أبو بكر:
نشر في: السبت 16 سبتمبر 2017 - 9:16 م | آخر تحديث: الأحد 17 سبتمبر 2017 - 3:12 م
أسرار الخلاف مع مبارك خلال مؤتمر شرم الشيخ للسلام سنة 2000
القضية الفلسطينية أعطت مصر الكثير.. والقرارات العشوائية لحكامها سبب تأخرها
ما علاقة فلسطين بتراجع التعليم وتردى الرعاية الصحية وغياب الديمقراطية فى مصر؟
قادة إسرائيل على اختلاف مشاربهم الحزبية والأيديولوجية أساتذة فى الدجل السياسى
أيقن الأمريكان والإسرائيليون فى مدريد أنه ليس فى مقدور أحد منع مصر من المطالبة بالحقوق العربية
مبارك لم يهتم بمفاوضات أوسلو السرية «ما دام الفلسطينيون سعداء فلا داعى لأن نكون ملكيين أكثر من الملك»
ما جرى فى أوسلو وما بعدها يدخل ضمن الاستراتيجية الإسرائيلية التى تستهدف «إدارة النزاع» وليس حله
تواصل «الشروق» نشر حلقات من الجزء الأول من مذكرات عمرو موسى، الذى يغطى الفترة من ميلاده سنة 1936 إلى نهاية عمله وزيرا للخارجية فى 2001؛ والمنتظر صدوره قريبا عن «دار الشروق»، ضمن ثلاثة أجزاء تحمل عنوان «كتابيه» هى مجموع المذكرات، التى قام بتحريرها وتحقيقها وتوثيقها، الكاتب الصحفى، خالد أبو بكر، مدير تحرير جريدة «الشروق».

وفى هذه الحلقة من الكتاب ــ الذى يحوى بين دفتيه 654 صفحة من القطع المتوسط، والذى استمد موسى عنوانه من الآية الكريمة «فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه» (الحاقة ــ 19) ــ يستعرض وزير الخارجية الأسبق مواقفه والدبلوماسية المصرية من القضية الفلسطينية خلال السنوات العشر التى قضاها وزيرا للخارجية، وهى القضية التى خصص لها فصلين كبيرين؛ وتاليا فإن ما سيرد فى هذه الحلقة، هو اختزال شديد جدا للنص الأصلى بوثائقه وتفاصيله الكثيرة والجديدة والمشوقة فى آن واحد. 

بوصولنا إلى هذا الجزء المهم وطنيا وشخصيا، والذى خصصته لإبراز جهد ودور الدبلوماسية المصرية فى دعم حقوق الشعب الفلسطينى وإبراز قضيته والعمل على حلها بما يتمشى وحقهم المشروع فى تقرير المصير. ويجب أن أذكر هنا أنه بقدر ما خلقته مصر وسياستها ودبلوماسيتها من زخم هائل جعل من القضية الفلسطينية بندا ذا أولوية عالية على الأجندة العالمية، أعطت تلك القضية للدبلوماسية المصرية فى الوقت نفسه زخما مهما حدد لها هدفا وغاية، وجعل لها دورا ليس بقليل على المسرح العالمى، ومسارا مهنيا أحسنت الدبلوماسية المصرية القيام به فنالت تقديرا كبيرا من مختلف الدوائر الفاعلة فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة والحركات السياسية التى أفرزتها، وفى إطار الأمم المتحدة وميثاقها ومداولاتها وقراراتها.

فى هذا الصدد أجد من الحتمى أن أتوقف عند الأهمية الكبيرة لبلاد الشام، ومنها فلسطين، بالنسبة لمصر من الناحية الاستراتيجية، الأمر الذى من شأنه أن يؤدى بكل حاكم لمصر لأن ينظر بكل ما أوتى من اهتمام لما يجرى فى هذه المنطقة المتاخمة لنا. لا اقترح أن استطرد فى شرح أو تأكيد هذه القواعد الاستراتيجية المتينة، ولكننى أوجه رسالة إلى البعض منا والذين تعالت أصواتهم تطالب مصر بالانكفاء على ذاتها والتقوقع داخل حدودها والابتعاد ــ قدر الإمكان ــ عن «مشاكل العرب التى لا تنتهى»، أو تلك التى تدعى أن الجهد والدم والمال الذى تم بذله على مدى سنوات عمر القضية الفلسطينية كان يمكن لمصر ــ وببساطة ــ عدم بذله، أو أن يحول إلى اتجاه آخر يركز على ما يهم بالنسبة لتقدم مصر ورخائها فى داخلها.

وهنا أقول إن المكاسب الاستراتيجية التى أشرت إلى مجملها حالا أضافت الكثير إلى قدر مصر ومكانتها، وفتحت أمامها أسواقا عديدة، وجعلت لكلمتها قيمة واحتراما. وأما ما عانيناه فى نفس تلك الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة وفى أعقابها يرجع فى الأساس إلى سوء إدارة الحكم فى مصر، وسوء تقدير الأمور، والتباس الأولويات، فما علاقة القضية الفلسطينية وركاكة مناهج التعليم؟ وما للسياسة العربية التى تتبعها مصر، وتفاعلها منذ السنوات الأولى لاستقلالها، مع حركات الاستقلال العربية.. ما لهذا بتراجع مؤشرات الرعاية الصحية؟ ما لهذا كله بالزيادة السكانية غير المنضبطة؟ ثم ما لهذا كله بسياسات التنمية المضطربة اقتصاديا واجتماعيا، زراعيا وصناعيا.. وأخيرا ما لهذا كله بتراجع البحث العلمى؟.. أو بتعطل مسار الديموقراطية. إنه سوء إدارة الحكم.. أو سوء إدارة الأمور. إنها القرارات العشوائية التى وصلت إلى مستوى اتخاذ قرارات الحرب والسلام، ونتائجها معروفة لجيلنا وستظل مؤثرة لأجيال عديدة من بعدنا.

مؤتمر مدريد للسلام

من أولى المناسبات التى قدرت أنها ستؤدى إلى ظهور قوى للقاهرة على المسرح العربى والدولى بعد طول غياب، مؤتمر مدريد؛ ولذلك وبينما كانت الولايات المتحدة منشغلة بإرضاء إسرائيل وطمأنتها حتى توافق على حضور المؤتمر، وبتقديم تنازلات شكلية فى مواجهة بعض الاعتراضات العربية، كانت الخارجية المصرية منشغلة بالإعداد لعودة مصر إلى قيادة العالم العربى وانتهاز مناسبة انعقاد مؤتمر السلام لاخراج منضبط لتلك العودة وتوثيقها.

نعم كان حتميا استغلال تلك المناسبة لاعلان عودة مصر إلى صدارة المشهد العربى؛ فى حضور جميع القوى الإقليمية والدولية منفردة ومتعددة الأطراف، ولم تكن هناك مناسبة متاحة للدبلوماسية المصرية أعظم من هذا المؤتمر الدولى الاستثنائى.

اتفق وزيرا خارجية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى أثناء زيارتهما لإسرائيل يوم 18 أكتوبر 1991م على توجيه الدعوة نهائيا لانعقاد مؤتمر السلام يوم 30 أكتوبر فى مدريد وعلى إشراك الفلسطينيين كوفد مشترك مع الأردن، ولم تكن الدبلوماسية المصرية بعيدة عن التنسيق مع الجانب الفلسطينى فى هذا الصدد. كان الإسرائيليون يريدون التفاوض ثنائيا مع كل فريق على حدة، ولم يكن الجانب العربى ــ على تعدد أعضائه ــ مستعدا لقبول المنطق الإسرائيلى وعبر معظمهم عن عدم ارتياحه. ولذلك ابتكر وزير خارجية الولايات المتحدة جيمس بيكر فكرة التفاوض على مسارين: ثنائى ومتعدد الأطراف.

بدأت الإعداد مبكرا لهذا المؤتمر، بأن كلفت أحد مساعدى الأكفاء، وهو السفير رضا شحاتة ــ الذى أصبح مديرا لإدارة الهيئات الدولية بالوزارة ــ بتجهيز مشروع لكلمة مصر أمام هذا المؤتمر، بعد أن حددت محاورها الرئيسية. قلت له بإمكانك أن تضيف على هذه المحاور ما تراه مناسبا، المهم أجد الكلمة جاهزة فور عودتى من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك التى تعقد فى سبتمبر. كنت أريد لهذه الكلمة أن تكون فارقة فى علاقات مصر العربية، وفى تقدمها بطرح جديد يتعلق بالسلام فى المنطقة واستعادتها لدورها الريادى فى هذا الإطار.

كان عزمى أكيدا على أن أخاطب المؤتمر بعبارة «نحن العرب»، مع التذكير بإسهام الحضارة العربية فى الحضارة العالمية. قدرت أن المؤتمر فرصة عظيمة لاعلان القاهرة أنها تتحدث باسم الأمة العربية مجددا، مع الأخذ فى الحسبان مختلف المتغيرات التى حدثت فى المنطقة خلال سنوات المقاطعة، وأهمية عدم المساس بمعاهدة السلام المصرية ــ الإسرائيلية، خاصة ونحن على أبواب عملية دبلوماسية كبرى تتعلق بالسلام فى الشرق الأوسط ودور مصر فيه.

افتتح المؤتمر يوم الأربعاء 30 أكتوبر 1991، فى قصر «الشرق الملكى» بالعاصمة الأسبانية مدريد بكلمة من رئيس وزراء أسبانيا، فيليب جونزاليز، رحب فيها بالوفود المشاركة، ثم كلمة الرئيس الأمريكى جورج بوش. ثم ألقى الرئيس السوفييتى ميخائيل جورباتشوف كلمته. كلمة مصر كانت فى ختام اليوم الأول. تقدمت إلى لإلقاء الكلمة بصفتى رئيسا للوفد المصرى. جاءت اللحظة التى أستعد لها والدبلوماسية المصرية كلها منذ فترة. بعد العبارات الاستهلالية التقليدية مضيت سريعا صوب صلب الرسالة التى أعددت لها جيدا، حيث قلت بالنص: »... نحن، المصريون، نحن العرب، أهل تاريخ واصحاب إسهام فى حضارة هذا العالم، وكما كان إسهامنا فى ماضى العالم، قديمه وقريبه، فإن عزمنا لأكيد بأن نسهم فى رسم أطر العالم الجديد، التى لا يمكن إلا أن تكون أطر تعاون وتفاعل، طالما كانت قواعد العدالة، ومبادئ الشرعية لحمتها، والمساواة والتقابل فى الحقوق والالتزامات سداها».

لقاء مع شامير

فى نهاية اليوم الثانى للمؤتمر طلب رئيس الوزراء الإسرائيلى إسحاق شامير اللقاء معى، واجتمعنا فى مساء ذات اليوم فى غرفة مزدحمة من حجرات الفندق. تحدث شامير بأكثر المواقف تشددا. قال إنه لن يتجاوز تنفيذ فكرة الحكم الذاتى للفلسطينيين، وإنه لا يمكن أن يتجاوز هذه المرحلة إلى المجهول، أو يوافق على إقامة دولة فلسطينية يمكن أن تهدد إسرائيل. وأوضح بأنه سيتفاوض ويتفاوض، ويبقى على التفاوض لمدة عشرة أعوام، ولن يسلم بشىء أو يعطى الفلسطينيين شيئا!.

استفزنى كلام شامير، ورددت عليه بمنتهى القسوة. قلت له إنك تكرر على مسامعنا هذا الكلام غير المشجع، الذى لا يوحى أبدا بأننا فى مؤتمر سلام، بل فى مؤتمر صدام. إنك تستعين بمتشددين.. ولو أننى فى مكانك ما استعنت لا بهذا ولا بهذا ولا بذاك، وأشرت إلى عدد من مساعديه واحدا واحدا، فأخذ رئيس الوزراء الإسرائيلى من حدتى فى الحديث إليه. كما أخذ الوفد الإسرائيلى لإشارتى إلى أعضائه غير المؤمنين بالسلام لكننى تيقنت من حديث شامير الصريح، أنه لا توجد نية لدى قادة إسرائيل لحل الصراع، وأنهم سيماطلون لـ«إدارة الصراع» وليس وضع نهاية له.

إننى مقتنع تماما بأنه لم يكن ليصح أن أتحدث إلى شامير بغير هذه اللهجة الحادة، بعد أشهر قليلة من تعيينى وزيرا للخارجية؛ لأننى قدرت أن من يعملون على التغاضى ولو جزئيا عن أعمال إسرائيل بدأوا يتزايدون فى مصر والعالم العربى، وأن المصلحة العربية تقتضى أن يخرج من رحم العرب من يستطيع أن يقول لهؤلاء القادة الإسرائيليين «لا»، و«لا كبيرة جدا»، فى مواجهة كذبهم وسوء نواياهم بالنسبة للفلسطينيين، وقد وقر لدى طوال مسيرتى الدبلوماسية بأن هولاء القادة الإسرائيليين على اختلاف مشاربهم الحزبية والأيديولوجية «أساتذة فى الدجل السياسى».

التقيت ثنائيا خلال المؤتمر ولأكثر من مرة بوزير الخارجية الأمريكية جيمس بيكر. كان حديثى واضحا إليه وهو أننا نشدد على ربط المسار الثنائى بالآخر متعدد الأطراف، وأنه إذا لم تحقق المسارات الثنائية ــ ولاسيما الفلسطينى منها ــ أى تقدم ملموس يعكس نوايا إسرائيلية جادة، فسوف تتخذ مصر من المواقف ما يؤدى إلى وقف أى حدوث تقدم مواز على المسار المتعدد. قلت له: «التقدم هنا مرتبط بالتقدم هناك»، باعتبار أن المسار متعدد الأطراف هو الجائزة الحقيقية المفترضة لإسرائيل لما ينطوى عليه من فرص تطبيع مع عدد من الدول العربية، والاستفادة الاقتصادية من وراء ذلك، دون تنازل عن الأرض المحتلة، وهو ما حاربته الدبلوماسية المصرية بالفعل خلال السنوات العشر التى توليت فيها وزارة الخارجية. 

انتهى مؤتمر مدريد وقد خرجنا منه بمكاسب مصرية، على رأسها أن الأمريكان والإسرائيليين تيقنوا أنه لا يمكن تدجين مصر، وأنها حية وحاضرة وقادرة فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى، وأن توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل لن يحول دون دفاع القاهرة عن الحقوق العربية. وأود التأكيد هنا على أن اللهجة الجديدة للدبلوماسية المصرية، وتغيير بوصلتها فى اتجاه العودة مرة أخرى للعرب لقى ترحيبا من الرئيس مبارك، لكنه كان يريد أن تتم هذه السياسة التى عملت على تحقيقها فى إطار محدود، بحيث لا يغضب الولايات المتحدة، ومن هنا كان الشد والجذب دوما بيننا بهذا الخصوص، أنا أريد أن نجعل من هذه السياسية خطا واضحا بما يمليه علينا وضع بلادنا وتطورات الصراع العربى ــ الإسرائيلى خاصة فى ضوء محاولات إسرائيل اليومية خلق أمر واقع يجعل من المفاوضات مسارا لا قيمة له، أما الرئيس فكان يرى عدم التوسع فى ذلك. كان مبارك دوما ما يوصى بتجنب الصدام والشجار مع الإسرائيليين.. ويقول لى «مش لازم يعنى كل شوية تقعد تخبط فى الإسرائيليين».
مفاوضات أوسلو السرية 

لا أستطيع أن أقول إنه كان لمصر إسهام مفاوضات أوسلو السرية بين الفلسطينيين وإسرائيل، والتى بدأت فى 20 يناير 1993، وتمخضت عن موافقة الطرفين فى النهاية عن مسودة (إعلان المبادئ الفلسطينى ــ الإسرائيلى) وعلى الاعتراف المتبادل بين المنظمة وإسرائيل، وهو ما تم بالفعل. لم يكن لنا إسهام لأن الإسرائيليين أرادوا أن يكونوا وحدهم مع الفلسطينيين، ولم يكن الفلسطينيين يمانعون فى ذلك خاصة بعدما وافق عرفات على تفويض عدد من المفاوضين الفلسطينيين بالجلوس فى مفاوضات أوسلو والعمل على الوصول إلى اتفاق.

لم يكن مبارك مهتما بتفاصيل ما يجرى فى أوسلو، كان رأيه أنه «مادام الفلسطينيون سعداء وراضيين عن هذا المسار التفاوضى فلا داعى لأن نكون ملكيين أكثر من الملك». لكننى حاولت معرفة تفاصيل ما يجرى فى هذه المفاوضات، رغم اتفاقى مع وجهة نظر الرئيس، أى أنه مادام الفلسطينيون يتفاوضون بأنفسهم مع الإسرائيليين ومقبلون على هذا المسار فلا داعى لأن نفرض أنفسنا، إلا أننى كنت قلقا إزاء انعدام التوازن بين الطرفين المتفاوضين من حيث القوة والجاهزية. كما لم أكن مقتنعا بأن الأمريكان ليسوا فى كامل الصورة مما يجري؛ وبالتالى كنت خائفا من أن تكون مصر فقط هى التى ليست فى كامل الصورة.

مسار أوسلو لم يكن مجمعا عليه فلسطينيا، ولم يكن ياسر عرفات مطمئنا إليه، وكذلك أبو مازن المفاوض الأساسى فى أوسلو كان قلقا، ولكنه (أبومازن) كان يشعر أنها مسألة مهمة فى إطار التفاوض المباشر الإسرائيليــ الفلسطينى، الذى يمكن من خلاله الاتفاق ربما دون الحاجة إلى وساطات الأمريكان وربما المصريين وغيرهم. وأنا ليس لدى اعتراض على ذلك، ولكن الحقيقة التى على الجميع استيعابها هى أن وجهة النظر المصرية لم تكن تخرج عن المصلحة الفلسطينية بل أحيانا تضبطها و«تخدم» عليها بإظهار الحزم مع الإسرائيليين ومع الأمريكان.

عدم تشاور المفاوضين الفلسطينيين معنا وضعنا فى بعض «العتمة» السياسية، ومع ذلك يجب القول بأن اتصالات متناثرة (بمعنى غير دورية أو محددة المواعيد) كانت تتم مع الرئاسة ومع المخابرات ومعنا فى الخارجية... وكنا واعين إلى أن هذه الاتصالات لا يمكن اعتبارها قاعدة معلومات خصبة يمكننا أن نبنى على أساسها تقييما أو سياسة، وأننا إذا طالبناهم بناء على هذه المعلومات القليلة برفض بعض البنود التى نراها مجحفة بحقهم ستصبح مصر عنصرا معوقا للسلام، وتحاول فرض وصاية على الفلسطينيين، بل قد يعتبر البعض منهم أننا نزايد عليهم! ومن ثم فلم نقدم أى اقتراح أو تعديل أو اعتراض.

كانت المعلومات التى تردنا من أجواء المفاوضات تثير عددا من الملاحظات على أداء المفاوضين الفلسطينيين. كنت أرى أن هناك أمورا تحتاج إلى توافق فلسطينى يتم قبل الدخول فى مفاوضات تتعلق بها. كما أن هناك موضوعات ذات أجل طويل لا داعى للتعرض لها فى اتفاق مرحلى، وكذلك هناك أمور تحتاج لتعديلات تتم قبل قبولها، وبالمثل هناك نقاط لا يمكن الموافقة عليها إلا بعد الرجوع للشعب الفلسطينى. وهناك نقاط يمكن البناء عليها. والحاصل أن الشعور الفلسطينى العام إذا جمعنا الموافقين والمعارضين، والمتفائلين والمشككين كان إيجابيا نحو عملية أوسلو، ولم أر من المناسب أن تلعب مصر دورا يمكن اتهامه بالتعويق، مع الحذر المناسب والاستعداد المستمر للمفاوضات القادمة. 

ولعله من المناسب هنا أيضا التذكير بما عبرت عنه فى حينه من إيمانى العميق بأن ما جرى فى أوسلو وما بعد أوسلو يدخل ضمن الاستراتيجية الإسرائيلية التى تستهدف «إدارة النزاع»، وليس التوصل لحلول نهائية له. كان هدف إسرائيل إعادة عرفات إلى غزة، لإحداث نوع من الهدوء والهدنة غير المعلنة، لكن أين الحركة الأساسية التى تستهدف حلا عادلا وشاملا للقضية الفلسطينية؟ غير موجودة على الإطلاق.
شرم الشيخ 2000
لم يستطع الشعب الفلسطينى الصبر بعد أن فقد الأمل فى إحداث تسوية عادلة، وفى 28 سبتمبر 2000، اقتحم أرييل شارون زعيم كتلة الليكود المعارضة ــ وقتذاك ــ المسجد الأقصى، وهى القشة التى أدت لاندلاع الانتفاضة الثانية التى قاوم فيها الشعب الفلسطينى بطش الاحتلال وقدم مئات الشهداء والجرحى فى المواجهات معه.

أذكر أن الرئيس اتصل بى تليفونيا فى أوائل أكتوبر ــ وكانت الانتفاضة مشتعلة ــ وأنا فى السيارة فى مصر الجديدة ذاهبا إلى مناسبة ما إثر مكالمة جاءته من أمريكا (هكذا قال لى) واستمر: «عايزين يجتمعوا هنا فى شرم الشيخ (يومى 16 و17 أكتوبر) عشان يشوفوا حل لـ(البلوة الفلسطينية). قلتلهم تعالوا».

سألته: مين اللى هييجوا؟. 

قال: الإسرائيليون والفلسطينيون طبعا، والأمريكان والملك عبدالله ملك الأردن، وكوفى عنان (السكرتير العام للأمم المتحدة)، خافيير سولانا، (الأمين العام للاتحاد الأوروبى).

سألت: الأمريكان يعنى كلينتون؟.

قال الرئيس: طبعا وهو احنا هنرفض زيارة كلينتون!

سألت وما هو جوهر الموضوع الذى سوف نناقشه؟

قال: هو فيه حاجة جديدة يا أخى.. أنت هتكون المفاوض مع صاحبتك أولبرايت وبعدين نشوف.

قلت يا سيادة الرئيس: إذن نبدأ بمباحثات على مستوى وزراء الخارجية.

قال نعم.

أضفت: وعلى أساس ذلك نحدد ما يحصل عليه الطرفان.

قال: وهو كذلك. ثم أضاف: أشوفك بعد يومين فى شرم الشيخ وقفل الخط.

قضيت باقى اليوم والوقت المتبقى حتى انعقاد المؤتمر فى ترتيب الموقف المصرى، وفى اتصال مع الفلسطينيين وفى التنسيق مع الرئاسة بالنسبة لترتيب الإقامة؛ فلم أكن أريد أن ينزل الامريكان والإسرائيليون فى فندق واحد، وكنت أريد أن ينزل الفلسطينيون مع الوفد المصرى فى فندق واحد. وتم التفاهم على كل ذلك.

وأثناء التحضير للمؤتمر رأيت أن الأمريكان والإسرائيليين يحولون مسار الحركة السياسية بشأن الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى إلى موضوع «أمن إسرائيل»، بمعنى بحث كل الحجج الفلسطينية فيما يتعلق بالحدود والسيادة والقدس وغيرها بعد تحديد أطر «أمن إسرائيل» وبناء على نتائجها، وهو ما اعترضت عليه فى حضور ياسر عرفات، الذى خرج ليعلن بعد المؤتمر أن عمرو موسى لن يكون وزيرا لخارجية مصر!.

بعد ظهر اليوم الأول للمؤتمر زرت الرئيس فى مقر إقامته، حيث شربنا الشاى سويا، ثم فتحت الموضوع بصراحة ودون مواربة سائلا عن هذا المسار الجديد، أى الاجتماع الأمنى الذى تم الترتيب له بدقة وما هو المطلوب بالضبط؟

رد الرئيس: هنشوف؟.. إنتو هتبدأوا امتى اجتماع وزراء الخارجية؟

قلت: بعد نصف ساعة، مضيفا يا سيادة الرئيس: هل يمكن أن يجتمع وزراء الخارجية ويناقشوا تفاصيل سياسية وتنفيذ اتفاقات قائمة (لم تنفذ بسبب إسرائيل) دون أن نعرف ماذا يجرى فى ذلك الاجتماع الموازى المنعقد فى فندق آخر (اجتماع القادة الأمنيين) وكأنه منبت الصلة عما يجرى هنا؟ وبدأ النقاش يعكر صفو علاقة العمل بينى وبين الرئيس.

ذهبت للقاء أولبرايت وكان موجودا أيضا كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات، ولم تسر الأمور كما يجب. كان موقف أولبرايت هو الدفع نحو اعطاء موضوع الأمن ــ أمن إسرائيل ــ أولوية.. دون الاهتمام بأية أمور أخرى تتعلق بعملية السلام ذاتها، أو ما يمكن أن يعتبر فائدة للفلسطينيين، الأمر الذى أثارنى.. والحقيقة أن ما أثارنى أكثر هو محاولة الحصول على «تفاهم سياسى» يخدم أو يسلم بأولوية موضوع الأمن الإسرائيلى وهو ما لم يكن من الممكن أن أقبله ضميريا وأخلاقيا قبل أى شىء آخر.

انتهى الاجتماع بعد أن قرر الأمريكان ألا داعى لاستمراره، وبدأت الأمور تتعقد بشكل أوحى بأن مستوى وزراء الخارجية سوف يتم تجنبه لصالح المفاوضات الأمنية الجارية، والتى ستعرض نتائجها مباشرة على مستوى القمة. يبدو أن أولبرايت والوفد المرافق لها كانوا يريدون أن يبحروا فى مياه سهلة، ويبدو أنها قد حصلت على تأكيدات بهذا الشأن، وجئت أنا لأعترض طريقها!.

بعد هذا الاجتماع اعترضت أولبرايت صراحة على طريقتى فى تسيير الأمور كرئيس للوفد المصرى فى الاجتماعات. قالت إن «عمرو موسى سيفسد العلاقة مع إسرائيل». وما جعلنى أستشيط غضبا هو استجابة الجانب المصرى للضغوط الأمريكية ومحاولة إبعادى عما يجرى فى مؤتمر شرم الشيخ، بل وصل الأمر إلى عقد اجتماع منفرد للرئيس مع وزيرة الخارجية الأمريكية سرا، ودون إخطارى بذلك، وقبول مقترحاتها فى كيفية وقف القتال بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

علمت بموضوع هذه المقابلة، فتوجهت إلى الرئيس وأنا فى قمة الغضب. تحدثت بلهجة فيها شىء من الحدة، من دون أن أتجاوز حدود اللياقة. قلت: كيف يتم اجتماع مع وزيرة الخارجية الأمريكية دون حضورى؟ أليس من الطبيعى أن أكون حاضرا لاجتماع فيه نظيرتى الأمريكية، وأنه لابد وأن أكون فى الصورة كاملة مما يجرى؟

احتد النقاش ــ وإن فى حدود ــ ثم غادرت الغرفة غير مقتنع، ولخروجى مسرعا أغلق باب الغرفة بقوة خلفى، فاعتبر المحيطون بالرئيس أن هذا كان استكمالا للهجتى الحادة معه، ولكن الواقع أننى خرجت دون أن أغلق الباب تاركا ذلك للحاجب الذى كان واقفا، ولم أعلم بأنه أغلقه بصوت مسموع ربما سببه تيار هواء.

علمت فيما بعد من السفير أحمد أبوالغيط، الذى كان يشغل منصب المندوب الدائم لمصر بالأمم المتحدة آنذاك، أن زكريا عزمى قد التقاه أثناء زيارة له للقاهرة، وقال له إن موسى احتد على الرئيس بشدة، و«خبط الباب جامد» فى وجهه عند خروجه من مقابلة معه شهدت نقاشا بينهما ارتفع فيها صوت موسى على صوت الرئيس، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال لوزير ــ مهما كان حجمه ــ أن يعامل الرئيس بهذه الطريقة؛ ولذلك فهو يبحث عن بديل له فى وزارة الخارجية. قلت لأبوالغيط بالحرف: «لعلك تذكر أننى كثيرا ما أخبرتك بأننى لن أبقى أكثر من 10 أعوام فى منصبى قبل أن أغادره.. يبدو أنها اقتربت يا صديقى»... لم أكن مهتما ولا قلقا بل كنت غاضبا وراغبا فى المغادرة.

اختتم مؤتمر شرم الشيخ بكلمة ألقاها بيل كلينتون، قال إنها تلخص ما تم التوصل إليه خلال المؤتمر، غير أن الإسرائيليين سربوا أن ما أعلنه كلينتون ليس هو بالضبط ما تم التوصل إليه، بل وسربوا إن هناك «اتفاقا أمنيا سريا» تم التوصل إليه مع الفلسطينيين، وهو ما أشار إليه كلينتون نفسه فى مذكراته تحت مصطلح «الخطة الأمنية، التى وضعها مدير المخابرات الأمريكية (CIA) جورج تينت»، والتى لم يعلن تفاصيلها فى هذه المذكرات، والتى اعترف فيها بأن مبارك شخصيا لعب دورا كبيرا فى إقناع عرفات بما تم الاتفاق عليه خلال القمة.


قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك