رَحَلَت الملكة عن 96 عاماً دون سابق إنذار.
رَحَلَت بعدما خَلَبَت قلوب الملايين "و أنا أحدهم" و نحتت تاريخها في ذاكرة الإنسانية بحروفٍ من نور.
رَحَلَت ملكة اليونان المُتَوَجَة على عرش قلوب عُشْاق السينما العالمية دون صَخَب. الأرملة عشيقة زوربا, هيلين أميرة طروادة, إلكترا, الملكة كاترين, هند بنت عُتْبَة, مبروكة..و أرواح كثيرة أخرى تَلَبَسَت جسدها الفارع. المغنية و الممثلة اليونانية الأشهر على مر التاريخ "إيرين باباس".
رَحَلَت في شهر ميلادها "سبتمبر" و على بعد خمسة أيام فقط من موعد رحيل ملكة المملكة التي "كانت يوماً", لا تغيب عنها الشمس, "إليزابيث الثانية" عن 96 عاما أيضا!
إلا أن تاج إيرين لم يوهب من رحم دستورٍ ملكي, إنما استحقته بعد رحلة ملحمية طويلة من كلاسيكيات المسرح و السينما العالمية حتى أصبح وجهها أيقونة للجمال اليوناني. بل تحولت ذاتُها إلى أسطورة إغريقية عن آلهة الفن و الجمال.
كَرِهْتُها طفلاً, حين شاهدتها أول مرة في الكلاسيكية الخالدة "مدافع نافرون" الذي عُرِضَ على شاشة البرنامج الأيقوني "نادي السينما". يحكي الفيلم عن مجموعة فدائية من قوات التحالف تُكَلَّف بمهمة مستحيلة. تَسَلُّق جبال جزيرة نافارون اليونانية "المُتَخَيَّلَة" ثم نسف مدافع القوات النازية المُخَبْأَة في كهوف الجزيرة. جسدت أيرين في الفيلم, دور الفدائية "ماريا".
اخترقت رصاصتها قلبي حين أطلقتها في صدر زميلتها الفدائية الفاتنة "آنَّا" بدمٍ بارد. الحق يُقال, أني وقعت وقتها في غرام آنّا أو الممثلة الإنجليزية الجميلة ذات العيون الزرقاء اللوزية "جيا سكالا".هي أيضاً صاحبة ملحمة تراجيدية في الحياة "قد أحكي عنها لاحقا". آنّا فتاة مسكينة فقدت سَمَعَها من شدة تعذيب الجبابرة النازيين. لكن المجموعة الفدائية اكتشفت زور ادعاءتها و خيانتها فقرروا إعدامها و بدلا من أن يُنَفِّذ قائد المجموعة "جريجوري بيك"حكم الإعدام بمسدسه, بادرت ماريا أو أيرين بقتل الفتاة التي أحببتها بكل جبروت! فما كان مني إلا أن لعنتها و أرجعت تصرفها الأخرق لغيرتها العمياء من جمال آنّا!
كَبُرَ الطفل و عشق السينما ثم استوعب أخيراً أنه يشاهد أسطورة حقيقية في فن التمثيل فعشقها.أيرين إبن القرية اليونانية الصغيرة. أبواها معلمان بالمدرسة. والدها كان مدرساً للدراما. القدر كان واضحاً معها منذ البداية. زارت القرية فرقة مسرحية متجولة تؤدي مسرحيات مستوحاة من الأساطير الإغريقية القديمة, فتَوَهَجَ شغف الطفلة الخجولة و أصبح إعادة تمثيل تلك المسرحيات لأطفال القرية هوايتها المفضلة.
في السابعة, انتقلت مع أسرتها إلى أثينا. هناك التحقت بالمدرسة الملكية للدراما. نضجت المراهقة في رحاب مسرح الأساطير اليونانية حتى انطلقت شرارة تمردها الأولى و تشكلت شخصيتها الفنية القوية فاصدمت بتقاليد المسرح اليوناني الكلاسيكي و هو ما تسبب في رسوبها في الدراسة أكثر من مرة رغم عظمة موهبتها بشهادة مدرسيها.
تفردت أيرين بجمالٍ شرس ذابت فيه الملامح الإغريقية في عطور الشرق. عيون سوداء واسعة ,أنف يوناني طويل , شعر ناعم حالك السواد و عظام وجنة بارزة جعلت منها واجهة مثالية للفن العالمي رغم خصوصيته فتألقت في تجسيد كافة الشخصيات الدرامية من الشرق إلى الغرب على عكس نمط الجمال السائد بين نجمات السينما وقتها. ذلك الجمال الأشقر الذي روجت له هوليود في حقب الخمسينات و الستينات على شاكلة "مارلين مونرو" و "جريس كيلي" و "آن مارجرت" . و بعيدا عن نجمات البحر المتوسط من أمثال "صوفيا لورين" و "كلوديا كاردينالي" التي تركزت نجوميتهن في أوروبا و لم يتخطى وَهَجَهُم الشاطئ الآخر من المحيط.

لم يكن الوجه فقط هو سلاح أيرين في تحقيق نجاحاتها العالمية. بل أيضا إجادتها لأربعة لغات "اليونانية و الإيطالية و الفرنسية و الإنجليزية", سَهَّلَ لها الإنصهار في تلك الثقافات المتباينة حتى استقبلتها الشعوب بحفاوة دون النظر لها كأجنبية أو مغنية زائرة تؤدي جولة فنية ثم تغادر.إعتبرت أيرين الإنجليزية اللغة المُفَضَلَّة الثانية لها بعد اليونانية "رغم إجادتها التامة للإيطالية" لأنها رأت أن فيها عراقة اللغة اللاتينية القديمة, حتى زَعَمَت في أحد الحوارات أن الإنجليزية أقرب إلى اللاتينية من اللغة اليونانية الدارجة! بل تمنت لو مُكِّنَ لها تأدية دور "ليدي ماكبث" في مسرحية شيكبير الشهيرة.
ذلك المزيج الثقافي الإنساني العالمي هو ما شَجَّعَ المنتج السوري الأصل, مصطفى العقاد فغَامَرَ بتقديمها للجمهور العربي في شخصية صعبة مثل "هند بِنت عُتْبَة" في فيلم الرسالة حتى استقبلها الجمهور العربي بحفاوة كبيرة. ثم كرر التجربة ثانيةً, فأسند إليها دور "مبروكة" في فيلم"عمر المختار-أسد الصحراء" .مرة أخرى يتكرر نجاحها بجدارة حتى انطبعت صورتها في ذاكرة و وجدان الجمهور العربي كأحد نجمات الشرق!
لا عجب أن فنانة بهذا الولاء للفن لم تتزوج أكثر من ثلاثة أعوام و لم تنجب. وهو نمط حياة يفكرنا براهبة المسرح "أمينة رزق". إيرين أيضا إبنة المسرح الكلاسيكي "الأكاديمية الأعظم في صقل موهبة التمثيل".
و لاعجب أيضا أن تكون قصة الحب الأكبر في حياتها مع أسطورة التمثيل المتمردة الأخرى "مارلون براندو". تلك العلاقة التي ولدت سرا في روما عام 1954 في أثناء تصوير أول أفلامها "بعدما اكتشفها المخرج الإسطوري إليا كازان و قدمها لكبار المنتجين في إيطاليا" .
علاقة حميمة استمرت في الظل بعيدا عن الأضواء عقودا طويلة حتى باحت بها أيرين بعد رحيله عام 2004 في حوارٍ صحفي مع جريدة إيطالية.
بالرغم من إخلاص إيرين لفنها, أرى أنها لم تُكَاَفء بما تستحق على قدر عطائها الممتد طيلة ستين عاما.
على سبيل المثال, أهم جائزة حصلت عليها, كانت جائزة مهرجان برلين عام 1961. لكنها لم تحصل مثلا على أي جوائز في المهرجان الأشهر عالميا "كان" أو فينيس "و إن ترأست أحد دوراته" أو حتى حفل الأوسكار . لكن الجائزة الكبرى, أهداها الجمهور لها بعدما خَلَّدَها في وجدان السينما شرقا و غربا على مر التاريخ.
عاشت حياتها كملحمة أسطورية..أبحرت في سماء الفن في رحلة أبدية إلى الخلود.
وداعا أيتها الملكة الإغريقية العظيمة..و شكرا على كل هذا الجمال!
تحياتي,
تامر شيخون