وداعا دكتورة رجاء منصور - حسام عبدالله - بوابة الشروق
الجمعة 17 مايو 2024 7:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وداعا دكتورة رجاء منصور

نشر فى : الإثنين 11 يناير 2021 - 7:35 م | آخر تحديث : الإثنين 11 يناير 2021 - 7:35 م

فى اواخر ديسمبر من العام الماضى رحلت عن عالمنا بعد معاناة طويلة مع المرض رائدة اطفال الانابيب وعلاجات العقم فى مصر الطبيبة والعالمة والفنانة والصديقة الدكتورة رجاء منصور.
أكتب هذا الرثاء لها وعنها فهى انسانة رائعة ومثل يحتذى به وقد بدأت رحلة إنشاء أول مركز لاطفال الانابيب فى مصر سنة ١٩٨٥ مع كل من الاستاذ الدكتور محمد ابوالغار والاستاذ الدكتور جمال ابوالسرور اللذين تعاملا معها بالاحترام اللازم وجعلا منها شريكهما الثالث فى انشاء اول وأهم مركز لاطفال الانابيب فى مصر والعالم العربى، وكان هذا قرارا حكيما منهما على الرغم من انهما كانا فى هذا الوقت فى اوج شهرتهما ولكنهما كانا على قدر عال من الوعى بالدور المركزى بل والاهم للمعمل فبدونه لا يمكن ان تنشئ مركزا لاطفال الأنابيب فهو فى الأساس المكان الذى يتم فيه الاخصاب وتقضى فيه الاجنة أيامهم الأولى خارج الجسم. لقد تعاملا بمساواة تامة مع هذه الطبيبة حديثة السن والشهرة والآتية بهذا العلم والمعرفة من أوهايو الأمريكية مقارنة بما عرض عليها من اطراف أخرى فى ذلك الوقت. بدأوا معها شراكة استمرت ٣٦ عاما.
ولم تكن الدكتورة رجاء فقط أول من انشأ معملا لاطفال الانابيب فى مصر بل كانت ايضا المدير الفعلى لهذا المركز فهى أول من يذهب فى الصباح وآخر من يترك مساءً، كبر المركز وكبرت معه د. رجاء واشتهرت ولكنها ظلت طوال هذه السنوات شديدة التواضع، متلهفة للعلم والمعرفة وقادرة دائما على نقلها بحيث يستمر المركز المصرى فى صدارة مراكز العلم والمعرفة والعلاج. ولأن هذا المركز كان الأول فى مصر وكل العالم العربى وكانت كل مكوناته محلية فلقد لعب دورا قياديا فى ارساء قواعد واخلاقيات علاجات الخصوبة واطفال الانابيب فى مصر وبهذا اصبح قدوة لكل المراكز الجيدة والمتميزة التى انشئت من بعده فى هذا التخصص العلمى.
لقد نجحت الدكتورة رجاء وزميلاها لأنهم كانوا على اتصال دائم بما يدور فى الدوائر العلمية العالمية لأن يلعبوا دورا جوهريا فى ازدهار هذا الفرع الطبى فى مصر وبداخل الجمعية المصرية للخصوبة. وذلك بالاضافة إلى مساهمتهم فى انشاء جمعية الشرق الاوسط للخصوبة التى جعلت مصر نتيجة لدورهم المهم مركزا للعديد من المؤتمرات العلمية المحلية والعالمية التى نظموها او دعوا اليها.
التقينا اول مرة عام ١٩٨٧ حيث كنت اقوم بإلقاء محاضرة عن أطفال الانابيب بدعوة من مستشفى السلام بالمعادى والتى نظمها استاذنا العظيم الدكتور محمد فياض رحمه الله. كانت هذه المحاضرة بالنسبة لى من اهم المحطات فى حياتى المهنية والشخصية، حيث غادرت مصر سنة ١٩٧٥ مطاردا سياسيا ابان حكم الرئيس انور السادات واستكملت دراستى فى كلية الطب بجامعة بغداد ثم فى المملكة المتحدة حيث تخصصت فى العقم واطفال الانابيب ومن ثم كانت هذه العودة بعد ١٢ عاما لإلقاء محاضرة علمية كخبير فى هذا العلم الجديد لزملائى واساتذتى بمثابة حلم تحقق. وكان من اهم هؤلاء بالنسبة لى أستاذى الدكتور محمد ابوالغار الذى كنت معجبا به منذ كنت طالبا فى الكلية ومن ثم غمرتنى السعادة حين دعانى بعد المحاضرة ومعه الدكتورة رجاء لزيارة مركزهم فى المعادى وتناقشنا باسهاب بخصوص جميع الحالات التى تم علاجها فى مركزهم حتى هذا الوقت. وتشاركنا فى تبادل المعلومات على عكس ما يحدث عادة. كان هذا اللقاء بداية لصداقة طويلة امتدت طوال هذه السنين بينى وبين كلٍ منهما. وبعد هذه المحاضرة بفترة زارتنى الدكتورة رجاء فى المركز الذى أنشأته فى لندن وقضت عدة ايام وتوثقت صداقتنا وعلاقتنا المهنية منذ ذلك الحين.
كان للدكتورة رجاء حضور متميز فى جميع المؤتمرات العلمية لامراض العقم والاخصاب الأوروبية والأمريكية والعالمية سواء كباحثة تقدم اسهاماتها او كمشاركة فى النقاش او كمنظمة. وشغلت الدكتورة رجاء رئاسة جمعية الشرق الاوسط للخصوبة وبذا كانت اول رئيسة (سيدة) لهذه الجمعية. تبوأت عديدا من المناصب فى مجال علم الخصوبة واطفال الانابيب ولعل اهمها انها كانت عضوا دائما داخل الجمعية العلمية العالمية لمراقبة إخصاب الطب المساعد ونتائجه على مستوى العالم، وتعمل هذه الجمعية على استحضار نتائج علاجات اطفال الانابيب فى كل دول العالم مجتمعة او منفردة. وتناقش فى تقاريرها السنوية الجديد فى العلاجات وكيف هى مطبقة فى بلاد ومناطق العالم المختلفة.
كما ان للدكتورة رجاء اكثر من ٢٣٠ بحثا علميا منشورا فى الدوريات العلمية العالمية، تلك الابحاث لم تكن فقط فى مجالها المباشر وهو علم الاجنة بل ولها العديد من المساهمات فى افضل الطرق والوسائل لنقل الاجنة داخل الرحم وهو دور اكلينيكى وليس معمليا، ذلك ان ادوارها فى هذا العلم كانت متعددة ومن الملفت للاهتمام انه وعلى الرغم من نجاحاتها المهنية، الا انها اهتمت بشدة ان تدرس كى تحصل على درجة الدكتوراه من جامعة ماستريخت فى هولندا، هى لم تكن تحتاج لهذه الدرجة العلمية لكى تترقى او تحسن من أوضاعها الحياتية ولكن كان هذا بالنسبة لها تحديا علميا لم تسترح حتى انجزته على الرغم من كل مسئولياتها ومشاغلها، كما انها حازت على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الطبية فى عيد العلم اغسطس ٢٠١٩، فقط اربعة اشهر قبيل مغادرتها النهائية لارض الوطن لغرض العلاج.
كانت رجاء صديقة بكل معنى الكلمة وانسانة وجدعة ومعطاءة، عرفناها عن قرب وسعدنا بصداقتها أنا وزوجتى وكلما زرنا مصر كانت تتصل بنا وتمر علينا وتدعونا لزيارتها فى منزلها فى المعادى للعشاء. كما شرفتنا بزيارة منزلنا فى لندن ومازلنا نحتفظ بنموذج لاحدى المراكب الشمسية الفرعونية فى مكان مميز فى منزلنا والتى أهدتها لنا فى احدى زياراتها. علاقتنا كان لها بعد اسرى وثقافى ومناقشات فى السياسة وكانت متحمسة بشدة لثورة يناير ٢٠١١ وكثيرا ما تحدثت معى للتعليق على حديث ادليت به لاحد التلفزيونات من لندن او لتبادل الرأى، ثم اختلفنا بعد ٣٠ يونيو ولكن الود والنقاش ظل مستمرا. وكنا نلتقى مرتين او ثلاثا من كل عام عند حضور المؤتمرات العلمية الخاصة بالخصوبة، ولقد دعتنى اكثر من مرة كى احاضر فى ورشات عمل كانت تنظمها من خلال مؤتمرات الجمعية الأمريكية للخصوبة وكذالك فى المؤتمرات التى ينظمها مركزهم فى مصر وكان آخرها المؤتمر العالمى الذى نظمته فى مدينة الاقصر سنة ٢٠١٥ بمناسبة مرور ٣٠ عاما على انشاء المركز المصرى لأطفال الانابيب.
واتصلت بى فى آخر زيارة لها إلى لندن سنة ٢٠١٨ ولكننا للأسف لم نلتقِ لأننى كنت امر بوعكة صحية شديدة ولكننا تواصلنا بعد ذلك وكعادتها كانت تقدم دعمها بطريقتها الخاصة. وكان آخر اتصال لنا فى فبراير ٢٠١٩ حيث اتفقنا على اللقاء فى أول زيارة لى إلى القاهرة ووعدت بان تطبخ لنا اكلة كوارع، ولكننى وللاسف لم تسمح الظروف بذلك حيث ساءت حالتى الصحية وانتهت بعملية نقل كبد لى فى سبتمبر ٢٠١٩. وللاسف لم اعلم بمرضها وتدهور حالتها الصحية نهائيا إلا بعد وفاتها.
ولاننى مريض مزمن بامراض الكبد فاننى اعلم ما يدور فى خلد المريض من خصوصية ما ابتلى به، فاننى ادعى اننى متفهم كيف استقبلت وتعايشت مع مبتلاها فهى مرضت بسرطان الغدد الليمفاوية منذ ٥ سنوات واستمرت فى عملها بكل هدوء وشجاعة دون حتى ان تأخذ علاجا فى المراحل الأولى متحملة الألم الجسدى والنفسى وحدها وعندما ساءت حالتها ولم يكن من الامر بد سافرت لتأخذ كل العلاجات الجديدة بل والتجريبية فى نيويورك حيث انتقلت للعيش مع ابنها كريم وعلى الرغم من هذا الابتلاء الا انها وجهت جزءا هاما من طاقتها إلى موهبتها الفنية ــ فهى ايضا فنانة تشكيلية قديرة عرضت مجموعة من اعمالها فى معرض فنى فى نيويورك وعند قراءة صفحتها على الفيس بوك فى آخر سنة من عمرها يلفتك بشدة سعادتها بهذا الانجاز كما انك لا تملك الا ان تتمتع برؤية كم هى مبهرة وعظيمة لوحاتها وكيف تتعامل بالالوان المبهجة والرائعة حتى وهى فى المراحل الاخيرة من مرضها.

اكتب هذه الرسالة اليك وعنك وارسلها عبر الأثير لروحك الطاهرة ولنفسك العزيزة، رسالة اعبر فيها عن اسفى الشديد لما تعرضت له من ابتلاء واننى لم أكن اعلم بكل ما قاسيت من مرض وآلام فى العام الاخير من حياتك الا مؤخرا وبعد أن غادرت عالمنا. جاء هذا الخبر بمثابة صدمة شديدة وكم كنت اتمنى ان أتواصل معك فى هذه الفترة العسيرة فى حياة أى إنسان، فالمريض منا يعلم كيف يتعلق بحب الآخرين وتضامنهم معه وتشجيعهم اياه والاحساس بدفئهم ويعز على اننا لم نتواصل فى هذه الفترة لأنى للأسف كنت ايضا امر بمرحلة حرجة فى رحلتى الطويلة مع المرض. ولكن عزائى هو ما ذكره ابنك كريم فيما كتبه عنك بانك كنت دائما «راضية» بما صارت اليها احوالك ويكفى المرء عند النظر إلى لوحاتك الفنية لمعرفة كم كانت روحك مليئة بالرضى سعيدة مملوءة بالبهجة بالرغم من ما كنت تمرين به من معاناة بسبب مرضك. وداعا لك وسلاما لروحك الطاهرة.
وأخيرا أريد ان اضم صوتى إلى صوت الصديق الاستاذ الدكتور اسامة شوقى فى مطالبته الدولة المصرية باطلاق اسمك على كيان فى الدولة لتظل مسيرتك ملهمة للاجيال.

حسام عبدالله طبيب مصري مقيم في بريطانيا
التعليقات