ماذا عن نموذجٍ مصرى؟ - محمد يسرى سلامة - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا عن نموذجٍ مصرى؟

نشر فى : الخميس 1 سبتمبر 2011 - 8:33 ص | آخر تحديث : الخميس 1 سبتمبر 2011 - 8:33 ص

 حضرت قبل ثلاث سنواتٍ تقريبا مؤتمرا فى داكار بالسنغال يهدف إلى الحفاظ على المخطوطات فى القارة الأفريقية، واتفق الحاضرون على أن يحضر جميع المشاركين العشاء الختامى للمؤتمر وهم يرتدون زيهم الوطنى، وبالفعل حضر جميع المشاركين من الشخصيات العلمية والأكاديمية عربا وأفارقة هذا العشاء فى أثوابهم الوطنية الزاهية، سوى شخصٍ واحدٍ فقط هو كاتب هذه المقالة، إذ لم أكن أعرف ما هو زيى الوطنى بالتحديد حتى أرتديه. فلكونى إسكندرانيّا لا أستطيع القول بأن هذا الزى يتمثل فى الجلباب والعمامة الصعيدية، أو الجلباب والطاقية الريفية، وأنا لست بأزهرىِّ حتى أرتدى الرداء الأزهرى، الذى هو تُركى فى حقيقة الأمر. وحتى الجلباب أو (القميص) الذى أحتفظ به فى بيتى لأحضر به صلاة الجمعة أو العيد لا يمكن لى أن أدعى بأنه يمثلنى، لأنه مصنوعٌ فى الصين، ومصمَّمٌ لأبناء الجزيرة العربية. ثم إننى وإن ادعيت أحد هذه الأزياء زيّا وطنيّا لى، فلن أفكر بالتأكيد فى اصطحاب أحدها معى إلى مؤتمرٍ عالمى، أو حتى ارتداءه فى إحدى المناسبات الرسمية داخل وطنى.

لقد وضعنى هذا الموقف الذى يبدو هامشيّا أمام مأزق معرفى حقيقى، مفاده أننى وإن كنت مشتغلا بالتراث، منتسبا إلى السلفية، غير أننى لا أعلم شيئا عن جوانب مهمة وأساسية فى تراثى، بلغت حد جهلى باللباس التقليدى لبلادى ولأسلافى. فأخذت أفتش عن هذا المجهول فى كتبٍ لم نكتبها نحن، مثل (وصف مصر) لمستشرقى الحملة الفرنسية، و(المصريون المحدثون) للسير إدوارد لين، وغيرهما مما كتبه الباحثون والرحالة الأوروبيون ما بين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، فأدركت حينها أننا حقّا لا نعلم شيئا على الإطلاق عن ملابسنا التقليدية الوطنية، وأن أزياء المصريين رجالا ونساء، التى وصفها ورسمها وصوَّرها هؤلاء الباحثون والرحالة قبل مائةٍ أو مائةٍ وخمسين عاما ــ وهى مدة قصيرة فى عمر الشعوب ــ لا توجد حتى فى متاحفنا.

تذكرت هذه القصة حينما قرأت تصريحا لأحد (المثقفين) يقضى فيه بأن مصر: (لا يمكن أن تكون دولة إسلامية)، فألغى بذلك زهاء ألفٍ ومائتى سنة من تاريخ مصر كانت فيه دولة إسلامية بالفعل، ولم تكن هذه الحقبة الطويلة يقينا أسوأ الفترات فى تاريخنا، بل كانت أكثرها رخاء وازدهارا وقوة علمية واقتصادية وعسكرية وسياسية، وهى التى حفرت لنا تلك المكانة الراسخة فى منطقتنا وفى العالم بأسره، على أنها لا تخلو بالطبع من لحظات ضعفٍ واضطرابٍ لا يخلو منها تاريخ من تواريخ الأمم الكبيرة العريقة. وخلاصة الأمر أن هناك من أقنعنا بأن (التجربة) الإسلامية فى مصر كانت تجربة فاشلة بكل المقاييس، وعلى جميع الأصعدة، لأنه قصر تلك التجربة على الحقبة العثمانية وحدها، ثم أخذ نتائجها وعمَّمها على تاريخ مصر الإسلامى كلِّه. ثم لم يقنع بذلك وحسب، بل عمل على طمس جميع ما يربطنا بهويتنا الحقيقية، بدءا بملابسنا الوطنية وانتهاء بلغتنا العربية، بل تعدى ذلك فى الأزمنة الأخيرة إلى ديننا واعتقادنا نفسه.

ولن أذهب كما يذهب غيرى إلى استعراض النتائج المرة للتجربة شبه العلمانية فى مصر، ويكفينا منها ثلاث: الاحتلال الإنجليزى لمصر، ونكسة يونيو 67، وعهد حسنى مبارك (شبه) البائد. ولن أفعل ذلك لأننى لا أميل إلى تمزيق تاريخ مصر وتقسيمه إلى أجزاء منفصلة لا يربطها رابط، لأن التاريخ هو تاريخنا جميعا فى نهاية المطاف، ولا يستطيع أحد أن ينتفى منه أو يتبرأ، ولأننا لا نستطيع القول كذلك بأن المكون الإسلامى كان غائبا طوال تلك الحقبة (شبه العلمانية)، بل كان حاضرا بقوة على الدوام، شاء بعضهم أو أبى.

إن جوهر القصة هو الصراع الطويل بين المشروع الغربى والمشروع الإسلامى، والغلبة الظاهرة للمشروع الغربى على نظيره الإسلامى فى المائتى سنة الأخيرة. ولأن من طبائع الإنسان الميل والانحياز إلى جانب الأغلب والأظهر والأقوى، فيمكننا لذلك أن نتفهم انحياز بعضنا إلى المشروع الغربى على حساب الإسلامى وتفضيلهم له، شريطة أن يعلنوا ذلك من دون أن يتمسحوا بمشروعٍ مصرىِّ لا يعرفه أحد منا، تماما كما يمكننى أن أتفهم نبرة الحزن والأسى التى تحدث بها (مثقف) آخر مبديا تخوفه من أن يؤدى المد (السلفى) فى مصر إلى القضاء على فن الباليه والنحت والمسرح والسينما والموسيقى الكلاسيكية والفنون التشكيلية، وغيرها من مكونات (الثقافة المصرية)، شريطة أن يقر ويعترف بأن المكونات المذكورة ليست مصرية كما يقول، لكنها مكونات غربية أقحمت إقحاما فى نسيج الثقافة المصرية حتى صارت جزءا أصيلا منها، لا يُتصور التخلى عنه من وجهة نظره، إذ ربما يبدو البحث عن المكونات الحقيقية للثقافة المصرية أمرا عسير المنال، ولو أننا نزعنا عنها تلك العناصر الغربية لن يبقى لنا منها شىءٌ يُذكر، وهى إشكاليةٌ صعبة كما هى محزنة.

إن المؤسف حقّا فى تلك القصة، والإشكال الحقيقى فيها هى أن كثيرا من (الإسلاميين) يحاولون إحياء مشروع إسلامى لا يعرفون حقيقته وأبعاده بدقةٍ ووضوح، لأنهم لم يدرسوه بعمقٍ وتفصيل، وأن السواد الأعظم من (العلمانيين) يحاولون القضاء على مشروعٍ لا يعرفونه أصلا، ولا يدركون أنه لم يفشل فى حقيقة الأمر، وإنما تعرض لحربٍ ضروسٍ تمكنت من إزاحته، ثم تمكنت من تغييبه وتجهيله، وأنهم ببساطة انحازوا إلى جانب الأغلب والأقوى، لكنهم لا يقرون بذلك، وإنما يظهرون أنهم يختارون الأحسن والأفضل، مع أن الأقوى والأظهر ليس بالضرورة أفضل.

ولكن المؤسف أكثر من ذلك هو أن الغرب، الذى هو إمامنا وقدوتنا اليوم، لم يفعل الشىء نفسه الذى نفعله نحن حينما تعرض مشروعه لهزائم ساحقةٍ متتالية أمام المشروع الإسلامى فى العصر الوسيط، بل سعى جاهدا إلى مراجعة مشروعه وتطويره، واستدراك أوجه النقص والخلل فيه، مع حرصه على الاستفادة من مشروع خصمه وإنتاجه العلمى والفكرى ليعود أكثر قوة وعنفوانا. بينما نصر نحن على الانسحاق أمام تجارب غيرنا وكأننا دولة صغيرة تعيش على هامش التاريخ، بحيث لم يبق لنا سوى أن نختار ما بين نموذج تركى أو سعودى أو إيرانى أو ماليزى أو غربى أوروبى، وكأنه لا يحق لنا أن نتساءل: ماذا عن نموذجٍ مصرى؟

إن هذا النموذج ليس بالقطع هذه الصورة المشوهة التى نعيشها اليوم، وليس نتاج التجربة (شبه العلمانية) التى لا تتعدى مائة وخمسين سنة من تاريخنا، والتى نرى آثارها ماثلة للعيان. كما أن محاولة استرداد هذا النموذج وإحياءه لا يصلح فيها مجرد (استيرادٍ) لنموذجٍ سعودى أو تركى أو غير ذلك مما قد يكون مناسبا لبيئته وظروفه، من دون أن يناسب بالضرورة بيئتنا وطبيعتنا. والحق أن هذا السؤال، سؤال الهوية، لا تستطيع جميع الإجابات الجاهزة فض إشكاليته، أو نزع فتيله، فإما أن يجلس العقلاء المخلصون والعالمون العارفون والمثقفون (الحقيقيون) معا لصياغة هذا النموذج والتعرف عليه وتحديده، لأننا جميعا لا نستطيع تمييزه ولا نعرفه، تماما كما لا نعرف زيَّنا الوطنى، أو سنجد أنفسنا عما قريب إما فى مواجهة ما يشبه النموذج الإيرانى للثورة، حيث يسعى كل طرفٍ لفرض ما يراه صائبا بما أوتيه من قوة، وإقصاء ما يخالفه، أو بصدد إعادة إنتاج لعهودٍ خلت، حيث ندور معا فى التيه لعشرات السنين، ونحافظ على مركزنا المستحق فى ذيل الأمم.

التعليقات