انعـدام الثقة وسوء الظن - محمد يسرى سلامة - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 3:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انعـدام الثقة وسوء الظن

نشر فى : الجمعة 19 أغسطس 2011 - 9:28 ص | آخر تحديث : الجمعة 19 أغسطس 2011 - 9:28 ص

 أما وقد بلغنا هذا المبلغ من التوتر والشد والجذب، فلابد لنا من فحص دقيق لمواقفنا، ومراجعة صارمة لها، والتصدى لتلك الحالة المستعصية من انعدام الثقة وسوء الظن والفهم، بما يمثل خطرا داهما على الثورة المصرية، التى سيكون فشلها وعجزها عن بلوغ أهدافها الأصلية فشلا لنا جميعا، ودليلا على عجزنا التام، وأنانيتنا المفرطة.

خلاصة القول أن كثيرا من القوى الليبرالية واليسارية والعلمانية وغيرها ترى أنها صاحبة الثورة وأحق الناس بها، ولذا تريد تلك القوى أن تضع دستورا، أو مشروع دستور يعبر عن أفكارها وأيديولوجياتها وطموحاتها، ولا يسعها فى ذلك الانتظار لما بعد الانتخابات العامة القادمة، لأنها غير واثقة من قدرتها على تحقيق نتيجة فى تلك الانتخابات تؤهلها لكتابة الدستور الذى تريده عبر جمعية تأسيسية منتخبة.

ومثل هذا التخوف يمكن للمرء أن يتفهمه، ولكن ما لا يمكن تفهمه هو محاولة إقحام كثير من الرؤى الخاصة بتلك القوى ضمن ما يفترض أن يكون دستورا للثورة، وهى رؤى لم تكن بالقطع من مطالب الثورة ولا من أهدافها. إننى واحد من الذين شاركوا فى الثورة منذ يومها الأول، يوم الخامس والعشرين من يناير، وأعلم كما يعلم غيرى ممن شارك أن مصطلحا كمصطلح الدولة المدنية على سبيل المثال لم يكن قط جزءا من شعارات الثورة، ولم يخطر ببال أحد من المشاركين فيها.

وعلى الجانب الآخر، فإن الإسلاميين فى معظمهم يرون كذلك أنهم أصحاب الثورة وأحق الناس بها، إما لمشاركتهم الفعلية القوية فيها، كالإخوان وبعض التيارات السلفية، أو لأنهم كانوا أصحاب الحظ الأوفر من اضطهاد النظام السابق وبطشه، أى كانوا فى حالة ثورة مستمرة منذ ثلاثين سنة، غير أنها لم تكن تلاقى تأييدا شعبيا جارفا كالذى لاقته ثورة الخامس والعشرين من يناير بسبب الخوف أو غيره.

ومثل هذا يمكن للمرء أن يتفهمه أيضا، لكن علينا ألا نغفل أن بعض مطالب تلك القوى لم تكن ــ كسابقتها ــ جزءا من مطالب الثورة وأهدافها، وأنه لا يمكن الدفع بمسار ثورة قامت على التوافق والإجماع على أهداف مرحلية محددة، كما ساهم فيها الجيش بما يمثله من حام وضامن للنظام الأساسى (شبه العلمانى) فى البلاد، لا يمكن الدفع بها إلى زاوية (الثورة الإسلامية)، حتى لو كان ذلك عبر صندوق الانتخابات.

وثمة طرف ثالث فى المعادلة هو السلطة الحاكمة فى البلاد بالفعل، أعنى المجلس العسكرى والهيكل الإدارى والتنفيذى للدولة على وجه العموم. وتلك السلطة لا تثق بدورها فى أى من الفريقين، وفى قدرته على الوصول بالبلاد إلى حالة من الاستقرار والهدوء، كما أن من الواضح أنها لا ترى بأسا فى النظام الأساسى للدولة كما كان عليه فى عهد النظام السابق، وإنما تريد القضاء على كثير من الممارسات والتجاوزات التى كانت تجرى من خلاله، والفساد الذى شابه (والفساد الطافى على السطح).

تلك هى صورة الإشكال، ولكن الإشكال الأعمق، الذى أدى إلى ذلك كله، هو عدم قدرة أى من الأطراف على بلورة مطالب الثورة الأساسية فى قالب واضح يخلو من الأيديولوجيات والصبغات الفكرية والسياسية، وهذا فى حد ذاته ليس بمستغرب، لأنه فى لحظة الثورة لم يكن فى الأذهان سوى شىء واحد، وشىء واحد فقط، هو إسقاط النظام السابق بجميع رموزه، وكل ما يمثله، وعندما حدث هذا بالفعل لم يكن هناك تصور أو توافق مسبق على ملامح المرحلة القادمة وأولوياتها.

وأدى التدافع بين هذه القوى الثلاث، بالإضافة إلى بقايا النظام السابق التى لعبت على أوتار هذه التداخلات والتناقضات والتدافعات ببراعة بالغة، لمجرد إثبات أن هذه الثورة فى مجملها حدث كريه سيء، أدى ذلك إلى ما نحن بصدده اليوم من اختلاف يصل إلى حد الصراع والتناحر.

إن حالة الوحدة الشاملة التى كانت سائدة يوم 11 فبراير بين مختلف القوى والأطياف السياسية والفكرية، وبين الشعب والجيش، كانت بلا شك خطرا ماحقا على كثير من الأطراف الداخلية والخارجية، وكان لابد من وأدها فى مهدها حتى لا تتحول إلى مد ثورى جارف يخرج بالبلاد عن الطور الذى رسم لها، ويخل بالأوضاع التى جاهدت تلك الأطراف من أجل تثبيتها فى البلاد والمنطقة والعالم على مدى سنوات طوال. وإنه لمن السذاجة أن نظن أن أخطاءنا وحدها هى التى أوجدت هذا الوضع المتأزم الذى نعيشه اليوم، كما أنه من الصلافة والكبر أن نبرئ ساحتنا من المساهمة فى هذا الوضع بشكل أو بآخر، وأن نحاول إلقاء المسئولية كلها على طرف دون طرف.

إن التشخيص السليم للإشكاليات التى نواجهها غير كاف فى حقيقة الأمر، بل لابد من طرح حلول تتناسب مع هذه الإشكاليات وتتحداها. والمدخل الرئيس إلى حل ممكن يكمن فى تضافر كل القوى والعناصر الفاعلة على إعادة صياغة لمطالب الثورة الأساسية، ابتعادا عن نقاط الخلاف الفكرى والأيديولوجى الحاد بين تلك القوى، وتجاوزا لكل ما من شأنه تشتيت ما أراده الشعب حقيقة، وتبديد القدرة على مواجهة المشكلات الملحة والمزمنة، والإرث الثقيل الذى خلفه لنا النظام البائد، ولا يمكن الوصول إلى هذا إلا بمنطق التوافق، لا منطق المغالبة. إن علينا جميعا النظر إلى السنوات العشر المقبلة فى تاريخ البلاد ــ تقريبا وليس تحديدا ــ على أنها مجرد مرحلة انتقالية طويلة بعض الشىء، وأن نتوخى أثناء تلك المدة العمل على ما يتفق عليه الجميع، دون ما اختلفوا فيه، وتجنب الاستئثار الشره بالقرار صغيرا كان أو كبيرا، بغض النظر عن نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية التى تجرى أثناء تلك المدة. وإننى على ثقة من أننا سنجد هذا (الهامش) الذى نتفق عليه، ويمكننا العمل على تحقيقه فى تلك المرحلة أكبر وأوسع بكثير من نقاط الاختلاف والتنازع، بحيث ستبدو هذه النقاط هامشية بالنسبة إليه.

إن أسوأ ما فى اللحظة الراهنة أننا نحاول الإجابة عن أسئلة مصيرية فى توقيت خاطئ وغير مناسب على الإطلاق، توقيت لا يستدعى سوى إجابات محددة على أسئلة آنية، وحلول عملية لمشكلات ملحة وواقعية، كما نبدو عازمين على تصحيح أخطاء وخطايا تاريخية، على تناقض رؤيتنا لتلك الأخطاء والخطايا بالطبع، فى لحظة لا تتطلب منا سوى العمل والإصرار على تجنب الوقوع فى المزيد منها.

إن منطقنا الذى مفاده: (إن لم تكن هذه اللحظة التى أمرر فيها مشروعى الفكرى، فمتى تكون؟) هو استغلال شديد الشناعة للحظة يمكن فيها صنع إنجاز حقيقى ورائع لأنفسنا ولأجيال قادمة.

وكتابة دستور جديد للبلاد يناسب ثورتها جزء من هذا الإنجاز من دون شك، ولكن الدساتير وحدها لا تصنع الأوطان، وإنما تصنعها روح الوعى والمسئولية التى تمنعنا من تحقيق مكاسب ومصالح على حساب المصلحة العامة للبلاد، ومكاسب الثورة نفسها، التى مكنتنا من أن نكون مشاركين فى صنع المستقبل وصياغة الحدث، وجعلتنا فى موقف الفاعل لا المفعول به.

ومن هنا، فإن محاولة فرض وضع ملزم فى هذه المرحلة من جانب أى طرف على الأطراف الأخرى عبر شرعية الأمر الواقع، أو حتى عبر شرعية صناديق الانتخاب، يبدو مخلا بهذه الصيغة التوافقية ومهددا لها، ولو جرى التمرير لما يطرح من وثيقة مبادئ حاكمة للدستور القادم، كحل قد يرتئيه الجيش والقوى (المدنية) لهذا الإشكال السالف، فسيكون هذا كفيلا بإحداث مرارة عامة لدى القوى الإسلامية، وإحساس عارم بما يشبه الهزيمة النفسية لها، مما سيكون له مردود بالغ السوء على الحياة السياسية المصرية فى السنوات القادمة، وسينسف قطعا أية محاولة للتوافق على المدى المنظور. كما أن على القوى الإسلامية أن تدرك جيدا طبيعة الأوضاع والتحديات والتشابكات الداخلية والخارجية، وأولويات المرحلة ومتطلباتها، مراعاة للمقاصد العامة للشرع، المرتبطة بظروف الزمان والمكان والحدث.

إن الغرض من كلامى هذا ليس محاولة إثناء أحد عن فعل شىء، أو إقناع أحد بعكس ما يراه صحيحا، لكنه محاولة لإيجاد طريق ثالث قد لا يرضى جميع الأطراف، لكنه بالتأكيد لن يضرها أو يستفزها أو يقصيها بأى وجه من الوجوه.

إن ما نحتاجه اليوم هو شىء قليل من الجهد، وشىء كثير من التجرد والإخلاص، يمكن من خلالهما مراجعة المبادئ الأساسية للثورة المصرية وأهدافها الحقيقية، والتكاتف من أجل تنفيذها، وتأجيل الخلافات الأيديولوجية لمرحلة لاحقة، نستعيد إلى حين بلوغها قدرا من العدالة، والحرية، والكرامة الإنسانية، والحقوق الأساسية للمواطن التى ضاعت لسنوات طالت.

التعليقات