من عجائب الدنيا أن يغادرنا، فى يومين متتاليين، مخرجان سينمائيان متميزان، كانا الأكثر انشغالًا بالمدينة ومصيرها، رغم انتماء كل واحد منهما إلى جيل مختلف.
المخرج الأول هو داود عبدالسيد، أما الثانى فهو عمرو بيومى، الذى وُلد قبل أن يتخرج داود فى معهد السينما بخمس سنوات، لكن رحلته اكتملت بعد أن بلغ الثالثة والستين عامًا.
أنعم الله علىَّ بصداقة الاثنين، ولمستُ عن قرب مساحات كثيرة تجمع بينهما؛ أولها الولع المشترك بمصر الجديدة، التى أظهرها الأول فى فيلمه الجميل «أرض الأحلام» مع فاتن حمامة ويحيى الفخرانى، بينما رصد الثانى بحساسية بالغة ما رآه فى الحى نفسه الذى يتنفس داخل فيلمه الروائى الوحيد «الجسر»، وهو آخر أفلام الممثل الكبير محمود مرسى.
وعلى الرغم من فارق الخبرة والعمر والتجربة بين المخرجين، فإنهما اتسما بالعمل الدءوب على التفاصيل، وكانا من محترفى التأمل والنظر العميق، فضلًا عن الشغف بالأسئلة الوجودية وسؤال المصير.
لم يُخفِ أىُّ منهما انحيازه الذى تشكّل عبر قراءات ومعارف كثيرة، وانتهيا إلى الإيمان بأن الانحياز يبدأ جماليًا قبل أى شىء.
وعلى هذا الأساس، أصبح داود عبدالسيد فى سنواته الأخيرة -كما صرّح فى لقاءات كثيرة- خارج اشتراطات السوق، وزادت حالته الصحية من مبررات الابتعاد. وهو الأمر نفسه الذى دفع عمرو، بعد نجاح «الجسر»، إلى التوقف عن العمل فى السينما الروائية، التى كانت تمضى فى اتجاه تسوده سينما «المضحكين الجدد» أو «السينما النظيفة»، فضلًا عن مشكلات توزيع الأفلام وفرص عرضها.
وجد بيومى فى الأفلام التسجيلية والقصيرة ما يلبى طموحه، فأخرج مجموعة من الأفلام التى نالت جوائز كثيرة، وعُرضت عبر العديد من المنصات، ومنها: «كلام فى الجنس»، و«مين اللى يقدر ساعة يحبس مصر خلف حاجز أسمنتى شفاف»، و«مدن الموتى»، و«رمسيس راح فين»، الذى يُعد أكثر أفلامه شهرة؛ إذ نال جوائز دولية عدة، أهمها جائزة مهرجان الإسماعيلية، وحظى بفرص عرض واسعة، خاصة مع افتتاح المتحف المصرى الجديد، بعد أن جرى تداوله على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعى.
يروى الفيلم ما فى ذاكرة مخرجه عن تمثال رمسيس الشهير، إذ كان موقعه على بعد خطوات من بيت عائلته، ثم يتابع رحلة انتقاله فى الزمان والمكان. غير أن زاوية النظر تتسع أكثر فأكثر لتضىء كثيرًا من المناطق المعتمة فى الذاكرة العمومية، على امتداد ما يزيد على نصف قرن.
سيجد داود عبدالسيد من يكتب عنه وعن أفلامه التى يعرفها الناس، كتابةً تضىء مسيرته النبيلة التى تستحق مجلداتٍ ومجلدات. لذلك سأركز هنا على مسيرة عمرو بيومى، الذى لازمته طويلًا، وأدركتُ قدر ما يتمتع به من حساسية مفرطة، سواء على الصعيدين المهنى والإنسانى.
عرفته فى المراحل التى عمل فيها على فيلمه «كلام فى الجنس»، الذى تولدت فكرته بعد أن قرأ الترجمة البديعة التى أنجزها الراحل صنع الله إبراهيم لكتاب «التجربة الأنثوية». وبفضل هذا الكتاب لمعت الفكرة فى رأسه، وبدأ الإعداد لها، راصدًا تطور صورة الجنس لدى المصريين، والأزمات التى يتداخل فيها الدينى مع الاجتماعى والتربوى، بالصورة التى جعلت من الجنس هاجسًا أقرب إلى الوسواس.
وأتيح لى العمل معه كباحث وكاتب لفيلم آخر تم تصويره قبل عشرين عامًا، يتناول سيرة المناضل اليسارى الراحل يوسف درويش. ورغم ما وجدناه من حماس لدى المنتج محمد العدل، فإن تعثرات كثيرة حالت دون إتمام المشروع. عقب موت يوسف درويش أنجزنا نسخة قصيرة أقرب إلى «بروفايل»، تم عرضها خلال حفل التأبين.
ولكى تدرك معى قدر ما تمتع به عمرو بيومى من دأب وإصرار وروح قتالية، يكفى أن أقول لك إن فكرة الفيلم ظلت فى رأسه إلى أن تمكنا من إنجازه بتصور مغاير تمامًا، استعان فيه بالمادة التى جرى تصويرها بعد أن انتقلت إلى المنتج معتز عبدالوهاب، وصارت أقرب إلى مادة أرشيفية تم إحياء ما فيها من شهادات، أُضيفت إليها رؤى شهادات أخرى.
لم يكن عمرو بيومى على صلة مباشرة بغالبية من شاركوا بشهاداتهم فى الفيلم، لكنه ملك قلوبهم جميعًا بفضل ما يتمتع به من جدية ودأب وخجل وجمال إنسانى انعكس فى جميع مراحل العمل، بحيث نشأت صداقات كثيرة تعمقت بينه وبين من ساعدونا بالظهور فى الفيلم، الذى تمسك عمرو باسمه، وهو «مجنون أمنيات».
والأغرب أنه لم يفارق عالمنا إلا بعد أن أنهى العمل على النسخة الأخيرة بإصراره المعهود، كأنه اختار العنوان الذى يلخص مسيرته؛ فهو حقًا «مجنون أمنيات».