يتواجد الفساد أينما تواجد البشر، ويتعاظم الفساد حين يقترب من السياسة، ويتفشى الفساد حينما تصبح بعض ممارساته قانونية. ولا تنافس أى مدينة أخرى العاصمة الأمريكية «واشنطن» فى عمق الفساد وقانونية ممارسته فيها. ولا يتعلق الأمر فقط بالحكومة الفيدرالية، بل يمتد الفساد ليصل لمراكز الأبحاث الهامة المنتشرة بها مرورا بشركات اللوبى التى تلتصق بالسياسة الداخلية والخارجية وتؤثر فيهما، ولا ينجو الإعلام بدوره من دائرة الفساد أيضا.
خلال حملتها الرئاسية الأولى الفاشلة عام 2008، دافعت هيلارى كلينتون عن التبرعات المالية التى تلقتها من شركات اللوبى المنتشرة فى واشنطن، وقالت «إن العاملين بشركات اللوبى Lobbyists يمثلون أفضل ما فى أمريكا». ويتوقع المطلعون على خبايا حملة كلينتون الرئاسية الثانية الحالية (والتى يتوقع لها الفوز المطمئن على منافسها دونالد ترامب)، أن تنفتح كلينتون أكثر من أى إدارة أمريكية سابقة على خدمات اللوبيات المختلفة، بل والاستعانة بالكثير ممن يعملون فى هذه الشركات للانضمام لإدارتها الجديدة فى مناصب قيادية هامة، وهو ما منعه الرئيس أوباما عند وصوله للحكم عن طريق إصدار مرسوم رئاسى عام 2009. ويُنتظر أن تغير كلينتون هذا المرسوم، أو أن تضغط على أوباما لتغييره هو شخصيا قبل مغادرته البيت الأبيض ليرفع عنها الحرج.
وتشير دراسة حديثة لمركز مراقبة السياسات إلى أن «84% من الفريق العامل حاليا مع هيلارى كلينتون عملوا فى الماضى ممثلين لمصالح شركات خاصة، أو استقالوا من العمل معها فى الحكومة للعمل فى شركات اللوبى». ولم تخجل المرشحة هيلارى كلينتون من تلقى أموال وتبرعات لحملتها من كبريات شركات اللوبى العاملة فى واشنطن، بل وتلقت حملتها حتى الآن ما لا يقل عن 7 ملايين دولار تبرعات من شركات اللوبى المسجلة رسميا. إضافة إلى ما سبق يترأس جون بوديستا، اللوبى والمسئول السابق فى إدارة زوجها بيل كلينتون، حملتها الرئاسية الحالية. وأسس بوديستا مع أخيه تونى أحد أكبر شركات اللوبى فى واشنطن، وكانت الحكومة المصرية عميلا لها لسنوات طويلة، قبل أن تنتهى هذه العلاقة رسميا فى ديسمبر 2011، إلا إنها مستمرة بصورة غير مباشرة حاليا.
***
أما الفساد فى قطاع الاعلام فقد تخطى التوازنات المتعارف عليها عند من ينظرون ويدرسون علاقة المال بالصحافة والتليفزيون. فخلال مؤتمرى الحزبين الجمهورى بمدينة كليفلاند، والديمقراطى بمدينة فيلادليفيا خلال النصف الثانى من شهر يوليو الماضى، استغلت كبرى الشركات الأمريكية العاملة فى مجالات الطاقة وتصنيع السلاح فرص مشاركة صحف ومجلات مرموقة فى استضافة وتنظيم ندوات وفعاليات تعبر فقط عن مصالح هذه الشركات مقابل مئات الآلاف من الدولارات تتلقاها هذه الصحف. وعلى سبيل المثال نظمت مجلة أتلانتيك الشهيرة ندوة بمشاركة معهد البترول الأمريكى (يمثل مصالح شركات الطاقة الكبرى مثل شيفرون وإكسون موبيل وكونوكو فيليبس) حول قضايا الاحتباس الحرارى استضافت فيها فقط عددا ممن ينكرون أصلا وجود أزمة بيئية بسبب انبعاث غاز الكربون، وينكرون أى مخاطر على البيئة من استمرار النمط الحالى من الاستخراج والتصنيع، ويعارضون البدائل النظيفة للطاقة مثل الطاقة الشمسية والرياح. وغاب عن هذه الندوات أى خبير من أنصار الحفاظ على البيئة أو ممن يناصرون بدائل الطاقة البديلة. وشارك أقطاب الحزب الجمهورى فى النقاش، وبررت المجلة غياب أى ممثل عن الرأى الآخر بـ«ضيق الوقت».
لا أحد يشك الآن فى فساد مؤسسة كلينتون الخيرية، واستغلالها من قبل متبرعين من مختلف انحاء العالم للحصول على موعد ولقاء مع وزيرة الخارجية السابقة، أو السيناتور عن ولاية نيويورك هيلارى كلينتون. وكشف تحقيق صحفى لوكالة أسوشييتد برس أن أكثر من نصف اللقاءات التى عقدتها الوزيرة كلينتون خلال خدمتها كان مع أشخاص ممن لهم يد بالإدارة الأمريكية وقد تبرعوا آنذاك بالأموال لمؤسسة زوجها وابنتها. وتؤكد الوكالة أن 85 شخصا من أصل 154 شخصا تحدثوا إلى كلينتون حين كانت وزيرة للخارجية كانوا من المتبرعين لـ«مؤسسة كلينتون»، وأضاف التقرير أنهم تبرعوا بمبالغ يصل مجملها إلى 156 مليون دولار.
وأعلن بيل كلينتون الأسبوع الماضى أنه إذا أصبحت زوجته رئيسة للبلاد فسيقوم بترك مجلس المؤسسة ولن يجمع لها الأموال!
***
أما مراكز الأبحاث المرموقة فيتكاثر الفساد حولها قادما من داخل وخارج أمريكا بطرق قانونية وشفافة أيضا. ونشرت مؤخرا صحيفة نيويورك تايمز تقريرا يؤكد أن أغلب مراكز الأبحاث الأمريكية يغيب عنها الحيادية والاستقلال بسبب فرض المتبرعين والمانحين أجندتهم على نتائج دراسات هذه المراكز. وأشارت الصحيفة إلى حالة «كبير باحثين» انضم لمعهد بروكينجز قادما من شركة «لينار كوربوريشن» العاملة فى مجال تشييد المنازل، والتى عمل فيها كمدير رفيع بعدما تبرعت الشركة بمبلغ 400 ألف دولار للمعهد للتأثير فى دراسات تتعلق بتصديق السلطات المختصة على تنفيذها لمشروع عقارى فى سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، وكان الباحث والمدير السابق بالشركة أحد أهم كاتبى الدراسة.
وتتمتع مراكز الأبحاث بواشنطن بنفوذ كبير إذ إنها تؤثر فى النقاش العام حول القضايا الأساسية سواء أمام وسائل الاعلام أو جلسات الكونجرس، أو من خلال نشر دراسات يفترض «حياديتها». إلا أن نيويورك تايمز أكدت أنه وفى بعض الحالات تتم مناقشة نتائج الدراسات مع الممولين قبل إكمال ونشر هذه الأبحاث. وتتلقى هذه المراكز ملايين الدولارات من أنظمة عربية قمعية، منها ما استهدف تشويه حالة الربيع العربى وتشويه فكرة الانتخابات الحرة فى المنطقة العربية، وللأسف كُتب لهذه الجهود النجاح.
***
سجل الولايات المتحدة طبقا لبيانات مؤسسة الشفافية العالمية جيد إذ تتربع على المركز السادس عشر عالميا كأثر الدول شفافية وأقلهم فسادا. إلا أن الواقع الذى تُعرف معه واشنطن بأنها «مدينة المحامين» جعل الكثير من الأعمال والأنشطة التى لا يمكن الاختلاف على فسادها أعمالا شرعية قانونية، وهو ما يسمح بفساد قانونى علنى قلما تعرفه مدن ودول أخرى.