الأخطاء الطبية بين الواقع والمأمول - علاء غنام - بوابة الشروق
الأحد 2 نوفمبر 2025 7:27 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يحسم السوبر المصري؟

الأخطاء الطبية بين الواقع والمأمول

نشر فى : الأحد 2 نوفمبر 2025 - 1:40 ص | آخر تحديث : الأحد 2 نوفمبر 2025 - 1:40 ص

هذا عنوان كتاب مرجعى قيِّم تم إهداؤه إلى من أحد مؤلفيه (د. حسن عبدالمجيد ود. عبدالحميد عثمان)، خبيرَى الجودة فى الخدمة الصحية المشهود لهما بالخبرة الواسعة والكفاءة. ويجدر عرض بعض ما فيه الآن لما يطرحه الواقع الطبى بيننا من مشاكل فى الآونة الأخيرة، خاصة بعد صدور قانون المسئولية الطبية الذى طال انتظاره وبدء تنفيذه.

وفى مقدمة الكتاب المهم نرصد طرحًا عميقًا وتحليلًا دقيقًا لإشكالية الأخطاء الطبية التى لا نرى منها إلا جزءًا صغيرًا طفا على سطح الماء، مثل رأس جبل الجليد العائم فقط!

حيث يقول المؤلفان: إن تزايد أعداد المرضى الذين تعرَّضوا للأذى أو الوفاة نتيجة تقديم رعاية صحية غير آمنة أدى إلى ارتفاع عبء الوفيات والإعاقة على مستوى العالم، خاصة فى الدول متوسطة أو منخفضة الدخل، حيث يُقدَّر فى المتوسط أن واحدًا من بين كل عشرة مرضى يتعرضون لأخطاء طبية أثناء تلقيهم العلاج بالمستشفيات فى الدول عالية الدخل، بينما تشير الدلائل إلى أن نحو 134 مليون حدث سلبى ناتج عن تقديم رعاية طبية غير آمنة بالمستشفيات فى الدول متوسطة ومنخفضة الدخل أدى إلى 2.6 مليون حالة وفاة سنويًا، كما تشير أحدث التقديرات إلى أن التكلفة الإجمالية الناتجة عن الأخطاء الطبية قد تصل إلى 1-2 تريليون دولار سنويًا.

لذا يحتل موضوع سلامة المرضى أولوية لدى جميع قيادات ومتخصّصى الرعاية الصحية، وفى مقدمتهم الأجهزة الرقابية وهيئات اعتماد الخدمة الدولية والمحلية، حيث تعمل على تبنّى الإجراءات الهادفة إلى حماية المرضى من أى آثار ضارة نتيجة تلقى الخدمة الصحية، ولضمان سلامة المرضى ومقدّمى الخدمة أيضًا وأمانهم أثناء تأدية مهامهم.

• • •

كما يشدد الكتاب على أن الفريق الطبى (العاملين الصحيين) هو ثروة قومية لبلاده يجب الحفاظ عليها وحمايتها من آثار الأخطاء، وتوفير الوسائل الحديثة لتدريبهم وتعليمهم بصفة مستمرة، وتحسين النظم الصحية التى يعملون فى إطارها؛ فهذه الفرق هى الملاذ الآمن للوطن فى كل الأحوال، وبخاصة فى الأوقات الحرجة مثل انتشار الأوبئة أو الحالات العاجلة. وعلى هذا الأساس، من وجهة نظرهما، يجب التعامل مع الأخطاء الطبية بوصفها نتيجة غير مرغوب فيها للممارسة الطبية، لكنها حتمية فى تقديم الخدمة الصحية، وهى تحدث نسبيًا فى كل بلدان العالم بشكل متفاوت حسب جاهزية تلك النظم فى كل بلد.

كما يجب ضمان حقوق المرضى وتعويضهم عن هذه الأخطاء، ومن المهم أن نضع فى الحسبان التكلفة الفعلية لتلك الأخطاء الطبية بسبب عدم كفاءة تلك النظم، مثل عدد الزيارات الإضافية للمؤسسات الطبية وعدد الوصفات الإضافية التى يجرى تحريرها، والاستهلاك الدوائى المفرط بسبب تلك الأخطاء.

ولا يجب أن نغفل التكلفة النفسية أيضًا التى تقع على كلٍّ من المريض ومقدّمى الخدمة الصحية على السواء، إذ يشعر مقدّم الخدمة بالذنب وتأنيب الضمير، بالإضافة إلى فقدان ثقة المجتمع فيه واطمئنانه للنظام الصحى نفسه، خاصة فى حالة نشر هذه الأخطاء فى وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعى. كل ما سبق يجعلنا نسعى للنظر فى النظام الصحى نفسه وحوكمته، والتعليم الطبى، والأساليب الحديثة لتفعيل أجهزة الاعتماد والرقابة فى تلك النظم، وحتمية تطبيق معايير الجودة من خلال برامج وطنية لاعتماد المنشآت الطبية (وهو ما يحاول نظام التأمين الصحى الشامل الجديد تطبيقه بالفعل فى مصر الآن).

• • •

فى السياق نفسه، واستجابةً للأرقام الصادمة، أصبحت قضية سلامة المرضى ضمن الأولويات الاستراتيجية للرعاية الصحية الحديثة التى تتطلع إليها جميع دول العالم لتحقيق التغطية الشاملة الآمنة، وتسعى المؤسسات الصحية حول العالم إلى تحقيق سلامة المرضى استجابة لمعايير منظمة الصحة العالمية والضغوط المجتمعية والدوافع الأخلاقية، ولكونها من أهم عناصر التنمية المستدامة.

ويؤكد المؤلفان أن الحديث عن القضاء على الأخطاء الطبية نهائيًا فى أى بلد، مهما بلغت درجة تقدمه، يعد هدفًا صعب التحقيق فى ظل تعقيد المؤسسات الطبية، وظهور العديد من التقنيات الحديثة، وتعدد الإجراءات المتبعة لتقديم الخدمة، وتنوع القوى البشرية المشاركة فى تقديم الخدمة الصحية. لكن ذلك لا يعنى - فى رأيهما - عدم السعى لفهم الأسباب المؤدية إلى حدوث الأخطاء الطبية، واتباع أساليب ومنهجيات للحد منها والمساءلة إزاءها.

كما أن الفهم الصحيح والواعى للأخطاء الطبية يتطلب دراسة مدى إدراك الفريق الطبى وتحديد توجهاته وقناعاته نحو الأخطاء الطبية، والعمل على الحد من تسليع الخدمة الصحية، وتحويل ثقافة المؤسسات الصحية من ثقافة عقابية إلى ثقافة تعليمية، وإصلاح النظام نفسه وضمان سلامة المرضى كهدف أساسى له. وهما يؤكدان أن ثقافة السلامة بالمؤسسات الطبية هى كلمة السر فى طريق الحد من الأخطاء الطبية، ومن ثم النظر إليها كونها فرصة لإصلاح النظام وحافزًا على تصميم برامج السلامة لتدريب العاملين فيه، وتبادل المعلومات بشفافية لتعم الفائدة وللحد منها.

والشفافية تتطلب عدم التعتيم عليها، والإبلاغ عنها، وتحليل أسبابها، ووضع النظم والسياسات والإجراءات وتحديد المؤشرات لاكتشافها، ونشر النتائج والتوصيات بعد دراسة أسبابها الجذرية.

وتُعرِّف منظمة الصحة العالمية سلامة المرضى وحقوقهم بأنها: «إطار من الأنشطة التنظيمية لإيجاد ثقافة، وإجراءات، وسلوكيات، وتقنيات، وبيئة للرعاية الصحية تضمن ديمومة تقليل المخاطر والأحداث السلبية التى يمكن تفاديها، وتقلل من فرص حدوثها، والتقليل من تأثيرها الضار فى حال حدوثها بالفعل».

• • •

لذلك فإن مصطلح "الأخطاء الطبية" قد لا يعطينا صورة كاملة عن قضية سلامة المريض الأكثر شمولًا، نظرًا لأنه يُسلّط الضوء فقط على مقدّم الخدمة المباشر من عناصر الطاقم الطبى (أطباء ومساعدين وممرضات وصيادلة وخلافه). وغالبًا ما يُلقى اللوم على صاحب الخطوة الأخيرة فى تقديم الخدمة، مع تجاهل كون هذه الخطوة الأخيرة واحدة ضمن سلسلة طويلة من الخطوات داخل منظومة مؤسسية لها جهازها الإدارى وهيكلها الوظيفى والقوى البشرية التى تعمل بها وتجهيزاتها وسياساتها وإجراءاتها وبنيتها التحتية وبرامج السلامة وثقافتها المؤسسية.

لذا فإن المسئولية هنا ليست فردية، وإنما مؤسسية، تعمل فى إطار نظام صحى وطنى بكل مكوناته وعناصره. ومن ثم، إذا أردنا تحليلًا صحيحًا للمشكلة، فعلينا ألّا نغفل النظر إلى المنظومة الصحية كلها، التى تعمل على تقديم الخدمات الصحية بكل مستوياتها وأنواعها، والعمل على إصلاحها وتحسين مسارها والرقابة عليها بصورة جماعية. بمعنى آخر، يجب أن ننظر إلى مشكلة الأخطاء الطبية فى إطار أن سلامة المرضى هى الهدف الأساسى للنظام الصحى.

سلامة المرضى: فى مايو 2004م انعقد المنتدى الصحى العالمى السابع والخمسون، حيث أُعلن فيه عن إنشاء "الرابطة العالمية لسلامة المرضى" بهدف تيسير وضع سياسات سلامة المرضى والممارسات الصحية الآمنة حول العالم، وكانت هذه الخطوة ذات فعالية كبيرة فى رحلة البحث عن أساليب تضمن سلامة المرضى باعتبار الإنسان هو مركز تلك النظم الصحية وهدفها الأساسى.

ومن ثم وضعت منظمة الصحة العالمية تقديم خدمات صحية آمنة وخالية من المخاطر ضمن حقوق الإنسان الأساسية.

كما تغيّر منظور العالم تجاه سلامة المرضى، فأصبح التفكير فى أسلوب النظام الصحى نفسه لا فى الفرد فيه كمقدم خدمة، وهو منظور أكثر شمولية يجب النظر إليه داخل إطار منظومة معقدة من الأنشطة والإجراءات والعمل فى فريق (يشمل من بين أعضائه المريض نفسه)، إضافةً إلى أسلوب التواصل بين المشاركين فى تقديم الخدمة والسلوكيات البشرية وتقنيات فهم المرض وأسبابه، وثقافة المؤسسة الطبية والنظم واللوائح والسياسات التى تسيرها.

• • •

مع هذا التغيّر فى رؤية العالم لسلامة المرضى، ترسخ لدينا العلم بأن التصميم السلبى لنظام تشغيل المؤسسة الطبية بما فيه من ثغرات ينتج عنه بالضرورة أخطاء طبية يمكن تفاديها.

لذا يجب العمل على تلافى هذه الثغرات بهيكلة التدخل الطبى وتنظيمه حول معايير جودة الخدمة وحقوق المرضى فى المعرفة، ومراقبة مقدم الخدمة أثناء تقديمها بما ينسجم مع الأطر المؤسسية، وعدم ترك الممارسة للجهد الفردى الخاص دون رقابة فى كل جوانبها فى سوق مفلوتة لا يسعى إلا إلى الربح كأى سلعة عادية.

ولذلك تبنت منظمة الصحة العالمية قضية سلامة المرضى من خلال أعمالها ومؤتمراتها، وكان آخرها مؤتمر الصحة العالمية الذى انعقد عام 2021، والذى أُعلن فيه تبنّى خطة عالمية لسلامة المرضى لعشر سنوات مقبلة.

كما تبلور مفهوم «الخطأ الطبى» بشكل أشمل، فلم يعد مقصورًا على الأخطاء التى يرتكبها الأطباء فقط دون غيرهم من مقدمى الخدمة، إذ إن سلامة المرضى كمسئولية وأمانة تقع على عاتق قاعدة عريضة من الجهات ذات العلاقة، ومنها المريض نفسه، والحكومات، ووزارات الصحة، والمؤسسات الطبية، والنظام الصحى المعمول به إجمالًا.

وذلك يخلق ثقافة السلامة بالمؤسسة الصحية، وهى الضمان للحد من الأخطاء الطبية. وعلى جميع المؤسسات الصحية وضع أساليبها لتحقيق ثقافة سلامة المرضى من خلال دعم أعلى مستويات النظم والتزامها، والشفافية، والتواصل الفعّال، والتعلّم من الأخطاء، ومن خلال الممارسات الصحية والتوازن بين ثقافة عدم توجيه اللوم والالتزام بالمسئولية المؤسسية، بالإضافة إلى توفير بيئة آمنة للعاملين الصحيين وتشجيعهم على تناول كل النواحى المتعلقة بسلامة المرضى (عبر مجالس الأمناء ولجان حقوق المرضى) دون خوف من أى آثار سلبية على حياتهم المهنية جراء هذا التناول.

 

 

علاء غنام مسئول الحق فى الصحة فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وخبير فى إصلاح القطاع الصحى
التعليقات