شهدت القاهرة فى سبتمبر من عام 1994 تجمعا عالميا ضخما أشرفت عليه الأمم المتحدة وبحضور180 مندوبا لدول العالم المختلفة، لمناقشة والتصديق على الوثيقة الدولية للمشكلة السكانية، والتى أطلق عليها إعلان القاهرة، واعتبرت خريطة طريق دولية للعمل بها لعقود تالية، أضيفت إلى جملة الوثائق الدولية لمواجهة تحديات المشكلة السكانية، التى اعتبرت تهديدا عالميا قياسا لندرة الموارد الطبيعية وتناقصها المطرد.
(انظر تقارير الأمم المتحدة فى مؤتمر بوخارست عام 1974، وتقرير المؤتمر الدولى للسكان فى مكسيكو سيتى عام 1984، وتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية فى ريو عام 1992، وتقرير المؤتمر العالمى لحقوق الإنسان فى فيينا عام 1993... إلخ) ثم إعلان القاهرة عام 1994 الشهير الذى وضع حزمة توصيات إيجابية ربطت تكامل المشكلة السكانية بآليات فعالة للتنمية البشرية وعدالة توزيع الموارد العالمية وتدعيم النمو المتكافئ بين الشمال والجنوب... إلخ.
• • •
مرت مياه كثيرة فى النهر.. انتهت النسخة الثانية من المؤتمر الثانى المصرى للسكان والصحة والتنمية البشرية يوم الخميس الموافق 24 أكتوبر، بالعاصمة الإدارية الجديدة، والذى انعقد برعاية السيد رئيس الجمهورية تحت شعار التنمية البشرية من أجل مستقبل مستدام. وأكد نائب رئيس الوزراء للتنمية البشرية والصحة، خالد عبدالغفار، خلال كلمته الختامية على أهمية المؤتمر هذا العام، والذى استكمل ما قدمه المؤتمر السابق، فى عام 2023، حول قضايا السكان والصحة وأضاف عليه محورا أكثر شمولية والتصاقا بالإنسان وهو محور التنمية البشرية والذى يؤكد على أهمية الاستثمار فى رأس المال البشرى لتحقيق التنمية المستدامة، مشددا على دمج التنمية البشرية فى صميم أهداف العمل سعيا لتحقيق نهج متكامل فى بناء الإنسان.
أضاف الدكتور خالد عبدالغفار أن النسخة الثانية من المؤتمر أتاحت فرصة لمناقشة مبادرتين رائدتين، وهما البرنامج الوطنى للتنمية البشرية والثانية هى الاستراتيجية الوطنية للصحة 2024 – 2030 موضحا أن هاتين الاستراتيجيتين تمثلان خريطة طريق واضحة لتحقيق التغطية الصحية الشاملة وتعزيز جوانب الأمن الصحى القومى بما يتماشى مع رؤية مصر 2030.
تابع الدكتور خالد عبدالغفار الحديث قائلا بأنه، بعد مرور ثلاثين عاما على إعلان القاهرة فى عام 1994، وهو الإعلان الأول لإحداث نقلة نوعية فى ملف السكان من التعداد إلى التنمية البشرية والحقوق الإنجابية، لذا وانطلاقا من ذلك فإن الحكومة المصرية تؤكد على أن الصحة والتعليم ورفاهية الشعب هى أساس تقدم البلاد مما يحتم علينا الالتزام برفع مؤشرات التنمية البشرية للبلاد من خلال تعزيز الصحة والرفاهية، وتحسين التعليم، وتطوير المهارات، وتعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية، وضمان التمكين الاقتصادى وخاصة للشباب والمرأة، وكذلك بناء الوعى الرشيد، ودعم تحسين الارتقاء بالخصائص السكانية، وتحقيق العدالة.
• • •
أستعرض أهم التوصيات التى نتجت عن المؤتمر، والتى تضمنت ثلاثة محاور فى التنمية البشرية والخدمات الصحية والقضية السكانية.
ما لفت نظرى بحكم المتابعة هو محور الخدمات الصحية والذى تضمنته وثيقة الاستراتيجية الوطنية للصحة التى أشارت إلى أهمية الوصول إلى التغطية الصحية الشاملة طبقا للبرنامج الزمنى المعد لذلك، ومواجهة التحديات فى مراحل التنفيذ بتعزيز خدمات المنشآت الصحية والكوادر الطبية ورفع كفاءتهم، وضمان تقديم خدمات صحية عالية الجودة، وتطوير مراكز الرعاية الصحية الأولية، ورفع كفاءة الفريق الطبى، وتخفيض وفيات حديثى الولادة، والتوسع فى مبادرات الصحة العامة، والعمل على تخفيض معدلات الولادات القيصرية فى القطاع الحكومى والخاص، ودعم الطريق نحو صحة أفضل لأطفال المدارس فى مصر بالتشخيص المبكر للأمراض وعلاج الأنيميا والسمنة والتقزم، ودمج الصحة النفسية فى شبكات الحماية، ورفع كفاءة المستشفيات لتقليل قوائم الانتظار، وتعزيز التصنيع المحلى للدواء، وضرورة إنشاء نظام صحى رقمى متكامل مع تطبيق الذكاء الاصطناعى داخل المؤسسات الصحية، وضرورة معالجة العلاقة بين المناخ والصحة، وإطلاق منصة للسياحة العلاجية، ورفع الوعى المجتمعى حول الأمراض غير السارية وإنشاء شبكة إفريقية للأمراض السارية. أعلن الدكتور خالد عبدالغفار فى ختام كلمته انعقاد الدورة الثالثة للمؤتمر فى الفترة من 10 إلى 13 نوفمبر من العام القادم 2025... إلخ.
الملاحظة الأولى هى تعد تلك التوصيات، وخاصة وثيقة استراتيجية الصحة المصرية، نوايا طيبة إيجابية على الجانب النظرى، عدا التشعب الذى شملته مواضيع الوثيقة، إضافة لتوقيت المؤتمر الذى يحتاج إلى مزيد من المراجعة فى شكله ومضمونه فهو أصبح تجمعا وطنيا يكرر سنويا -كما أُعلن- وهذا فى حد ذاته لا غضاضة فيه، رغم أنه سمح بدعوة بعض الخبراء من العالم، وهذا لا يعنى أنه ملزم عالمى مثل إعلان القاهرة - المشار إليه سابقا- الذى حظى برعاية الأمم المتحدة عالميا ودعمها هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى أنه انتهى بحزمة توصيات وطنية تخص الحالة المصرية فى محاور ثلاثة وبوثيقتين إحداهما فى التنمية البشرية والأخرى حول الرعاية الصحية فى مصر من عام 2024 إلى 2030. والوثيقة الثانية لا تتجاوز العديد من الوثائق الخاصة بالوضع الصحى المصرى وتحدياته الهائلة فى تنوع واضح مع عدم التركيز على الأولويات والتحديات الأهم الخاصة بتطبيق نظام التأمين الصحى الشامل وصعوبته والتساؤلات الكثيرة حول ما تم فيه حتى الآن، خاصة مع ما أثير أخيرا حول قانون طرح بعض المستشفيات العامة لالتزام والتأجير أو الاستثمار الداخلى والخارجى لهما، مما يثير الكثير من المخاوف بين الناس فى المجتمع.
الملاحظة الثانية عن كافة المؤتمرات التى عقدت فى السنوات الأخيرة بعد إعلان القاهرة الشهير أنها نسخ مكررة تحمل كثيرا من التوصيات الذكية والإيجابية، وأنها كانت فرصا عظيمة لكنها ضائعة، لأنها لم تضع خططا تنفيذية ملزمة وبتوقيتات محددة وأولويات أساسية. كما أن الواقع أثبت عمليا أن بناء الإنسان عملية شديدة الصعوبة والتعقيد، وأنها مرتبطة أساسا بعوامل وتغيرات عالمية ومحلية سلبية سياسيا واقتصاديا حدت من إنجازاتها إضافة إلى الظروف غير المواتية حاليا فى المنطقة التى تعد تهديدات مستمرة.
الملاحظة الثالثة هى أننا يجب أن ندرك أن بناء كوبرى جديد أو شق طريق كروافع للبنية التحتية والاستثمار أسهل كثيرا من تنمية البشر بمحددتها المعروفة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، وهذا ما تؤكده تقارير التنمية البشرية العالمية الدولية.
الملاحظة الرابعة والأخيرة، أن قياس أثر مثل هذه المؤتمرات والوثائق هام جدا، وربما هذا ما لا يحدث دائما بالشكل الأمثل حتى الآن. فنحن لا نعرف بدقة حقيقة ما حدث لنا تنمويا فى العقود الأخيرة فى محور بناء الإنسان ومحور غلق فجوة العدالة الاجتماعية وتنمية البشر اجتماعيا واقتصاديا. وهذا ما كنت أتمنى طرحه فى المؤتمر الأخير، أقصد كيف نقيّم ما حدث لنا فى العقود الأخيرة بشفافية نقدية. تلك هى القضية وليس مزيدا من الأوراق الجيدة الصياغة المكررة مع بعض الكلمات الاحتفالية البديعة التى تُنسى بمجرد انتهاء المناسبة لنستعد لكلمات قادمة جديدة دون قياس الأثر وطبيعة التحديات التى لم تحل. وهو لب القضية التنموية الصحية والسكانية وبطبيعة الحال السياسية والاقتصادية