وكأننا انتصرنا - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:19 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وكأننا انتصرنا

نشر فى : الأحد 2 ديسمبر 2012 - 12:25 م | آخر تحديث : الأحد 2 ديسمبر 2012 - 12:47 م

لو أراد مخرج سينمائى أن يصور مشهدا بهذا الإحكام ربما لما استطاع، فالمناظر كانت تتلاحق من شباك القطار القادم إلى القاهرة من الإسكندرية بشكل عفوى، وكأن موسيقى التليفون المحمول لأحد الركاب تعلق على الأحداث من خلال صوت عبدالحليم حافظ الذى كان يرتفع من حين لآخر صادحا: «انتصرنا.. انتصرنا.. انتصرنا!»... هذا الجزء من أغنية «حكاية شعب» التى يرجع تاريخها إلى مطلع الستينيات، بعد افتتاح السد العالى، ظل يتردد داخل القطار وكأنه شريط صوتى تم تركيبه بإتقان على صور من الواقع تتدافع مع مسيرة القطار، لتروى فعلا حكاية شعب أو بالأحرى ما وصل إليه حال هذا الشعب... محطات قطار يدل بعضها على مجد غابر أو مصير «عزيز قوم ذل»، أما المحطات الأحدث فتحمل ملامح عشوائية طاغية.. مبانى من الطوب الأحمر لم ولن يتم تشطيبها.. هناك دوما شىء غير مكتمل.. فقر مدقع، ووجوه اعتلاها الهم، ومدن تعسة، وأراضٍ زراعية زحف عليها العمران فى أبشع صوره، فلا هى ريف ولا هى حضر.. ويشدو عبدالحليم مجددا: «انتصرنا.. انتصرنا.. انتصرنا»، فيزيد من سخرية الموقف، الانتصارات أحيانا تكون غريبة بعض الشىء، خاصة إذا عرفنا أن القطار نفسه وصل ساعة متأخرا عن موعده، لكن الحمد لله دخل العاصمة بسلام، دون مشكلات أو كوارث «مزلقانية»... مع الاقتراب من محطة الوصول ظهرت لافتة كبيرة تبشرنا بأننا فى مهمشة، وتحديدا أمام «مركز العذراء بمهمشة»، وقد كتب عليها: «السيدة مريم العذراء ترفض الإساءة للرسول الكريم».. قلت: «تمام»، كما يعلق أحد الأصدقاء عندما لا يجد ما يضيفه أو يتغاضى عن ذلك، وقد تم الحكم غيابيا على سبعة من أقباط المهجر بالإعدام على خلفية الفيلم المسىء للنبى! ولا يجوز التعليق على أحكام القضاء...

 

أرضية القطار بعربات الدرجة الأولى غطتها طبقات من الأتربة، وهى تتصاعد مخلفة «شبورة غبارية» كلما سقطت عليها حقيبة أو أنزل أحدهم أمتعته... يجرى صرصار صغير خوفا من أن يلقى مصرعه فى معترك الزحام ويتوارى تحت البلاستيك المتسخ الذى وضع فوق الموكيت... الموضوع عبثى بما فيه الكفاية ولا يحتمل أن نفجع من «مصير صرصار» على طريقة توفيق الحكيم فى مسرحيته التى تحمل الاسم نفسه، وذلك بعد إصراره على كفاح لا أمل فيه.. يشتد الحوار فى المسرحية حول مشكلة الأمن القومى للصراصير، وهى النمل الذى ينتظر فقط انقلاب أحدهم على ظهره، عندئذ تسقط هيبته ويصبح مستباحا، لا شنبات ولا خلافه. الصراع أبدى، وصوت عبدالحليم يرتفع: «انتصرنا.. انتصرنا.. انتصرنا». ثم يأتى دور من يعملون داخل القطار الذين يتصرفون وكأن وجودهم ضرورى وكأنهم انتصروا لمهمتهم ووصلوا بالركاب إلى بر الأمان، وفى الواقع هم يستجدون العطف وقليلا من البقشيش... هيئتهم لا تفرض نوعا من الهيبة على المحيطين، ومن مقومات الهيبة أن تعلن عن هذا من خلال السلوك أو طريقة التعاطى مع الجمهور وحسن أداء العمل، إذا توافر ذلك للشخص يفرض هيبته على من حوله، فهو لا يُخشى لذاته ولكن لأنه يمثل دولة القانون، ولأن الدولة بكل امكانياتها تقف خلفه إذا ما ضبط مخالفا للتعليمات! وقطعا هذه ليست بالمهمة السهلة فى دولة «كأن»...

 

 

فكل شخص يتلقى من الاحترام والهيبة قدرا مساويا لما يقدم للمحيط الذى حوله، كما يجب أيضا أن يتحلى ببعض فنون التواصل مع الناس بما أنه يعمل معهم، فشرط من شروط الهيبة أن ينجح فى إيصال رسالته بوضوح وأن يكون مقنعا عندما يعبر عن أفكاره، وإلا سقطت هيبته وأصبح كالمراهقين الذين لا يجدون الكلمات المناسبة للتعبير عن أنفسهم فيغضبون ويصفقون الباب خلفهم.. بعض هذه الصفات يمكن اكتسابها من خلال التربية، نعتاد منذ الصغر أن نفرض احترامنا على الآخرين دون صراع أو تصرفات سلبية.. دون عنف. نتعلم كيف نتمسك بمواقفنا، دون عناد.. فالتراجع والاعتذار يشكلان أحيانا ضرورة للحفاظ على هيبة الشخص، وإلا خسر الكثير لأن الهيبة تختفى دائما مع الفشل.

 

 

 

التعليقات