تركيا والغرب... اعتماد متبادل - عزت سعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تركيا والغرب... اعتماد متبادل

نشر فى : الإثنين 7 سبتمبر 2020 - 6:55 م | آخر تحديث : الإثنين 7 سبتمبر 2020 - 6:55 م

بعد انضمامها للناتو عام 1952، نجحت تركيا فى تطوير علاقات وثيقة بأوروبا الغربية فى مجالى الدفاع والتجارة. وخلال تلك الفترة اهتم الأوروبيُون بتركيا بسبب كونها جزءا من جغرافيا المنطقة الأوروآسيوية، التى نُظر إليها على أنها «حارس بوابة أوروبا». وسرعان ما أصبحت حليفا استراتيجيا للغرب فى حربه الباردة ضد الاتحاد السوفيتى، وبرزت أهميتها الاستراتيجية كموقع للصواريخ وأنظمة الرادار ومرافق التخزين العسكرية، بجانب أهمية مضيقى البسفور والدردنيل تجاريا وعسكريا.
ولمواجهة النفوذ السوفييتى فى المنطقة، رحب الأوروبيُون بأنقرة وبعقد اتفاق إطار اقتصادى معها فى 12 سبتمبر عام 1963، استهدف تعزيز التكامل بين الجانبين، من خلال اتحاد جمركى، تحقق بالفعل عام 1995 بما سمح بحرية انتقال السلع والأموال وإلغاء جميع الرسوم الجمركية بدءا بالمنتجات الزراعية المستوردة من تركيا. وفى ديسمبر 1997، أعلن المجلس الأوروبى فى لكسمبورج أن تركيا باتت مؤهلة للانضمام للاتحاد الأوروبى، وبعد ذلك بعامين (ديسمبر 1999) تم إعلان تركيا رسميا مرشحة للانضمام.
ويشير بعض الكتاب الأوروبيين إلى أن الاعتقاد فى إمكانية انضمام تركيا للمنظومة الأوروبية وجد أصوله ليس فى مسألة الأمن وإنما فى «المثالية السياسية»، فقد اقتنعت الأحزاب السياسية فى مختلف أنحاء أوروبا بصدق نوايا أنقرة وقدرتها على رفض ماضيها العسكرى، والتحوُل نحو الحداثة وترسيخ الديمقراطية. وممَا عزَز من هذه القناعة أنه خلال هذه الفترة، وقبل وصول أردوغان للسلطة، أدخلت إصلاحات إيجابية على النظامين القانونى والقضائى فى البلاد بما يتفق والمعايير الأوروبية.
ومع وصول أردوغان سُدَة الحكم تعهَد باستمرار التوجُه العلمانى مستخدما خطابا مروِجا لما أسماه بالديمقراطية العلمانية ولسياسات دولية موالية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، وكمثالٍ شملت باكورة مبادراته السياسية توحيد قبرص وتطبيع العلاقات مع أرمينيا وزيارة إسرائيل، كما أظهر حماسا شديدا لانضمام بلاده إلى الاتحاد ومضى قدما وبإصرار فى تنفيذ أحد أهم شروط الانضمام وهو إبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة والتخلُص من نفوذها القوى فى البلاد.
وبفضل علاقاتها بالاتحاد الأوروبى، شهدت الفترة ما بين 1995 و2005 الطفرة الاقتصادية والمجتمعية الأكبر فى تاريخ تركيا، حيث أمكن لأنقرة تحويل اقتصادها الزراعى إلى خامس أكبر مُصدِر للاتحاد الأوروبى. وبدعمٍ من الأخير، واصلت أنقرة تطوير قاعدتها الصناعية، ممَا أدى إلى زيادة نسبة الطبقة المتوسطة، والقدرة التنافسية والإنتاجية لقطاع التصنيع فى البلاد. وبعبارةٍ أخرى، واكب النمو الاقتصادى غير المسبوق فى البلاد فى القسم الأكبر من ولاية أردوغان اعتمادا ماليا متزايدا على الغرب، لاسيَما أوروبا التى تجاوزت استثماراتها فى تركيا 65% من إجمالى الاستثمارات كما جاءت نسبة 80% من ديون تركيا الخارجية من مصارف الاتحاد الأوروبى.
ومع هذه الطفرة الاقتصادية الكبرى ــ والتداخل والاعتماد الكبير للاقتصاد التركى على الاقتصاد الأوروبى ــ بدأ تمرُد أردوغان على شركائه الأوروبيين. ففى عام 2006، وبعد أن تم تدشين مفاوضات الانضمام للاتحاد، بدأت المشاكل بين الجانبين بسبب المسألة القبرصية. فمع تصميم أنقرة على استمرار احتلالها لشمال الجزيرة وتعنُتها، اتخذت بروكسل قرارا بتجميد مفاوضات الانضمام وبضم قبرص اليونانية لعضوية الاتحاد دونما انتظار لتسوية النزاع القبرصى على نحو ما كانت تأمل أنقرة.
***
وجاءت ثورات الربيع العربى عام 2011 لتُوَفِر لأردوغان فرصة جيدة لتقديم نموذجه للإسلام السياسى كطوق نجاة للدول التى شملتها هذه الثورات. ولعبت قطر دورا كبيرا فى تأمين هذا الدور كحلقة وصل بين حركة الإخوان وتنظيماتها الفرعية فى دول الثورات من ناحية وتركيا والدول الغربية من ناحيةٍ أخرى، مستخدمةً فى ذلك ثروتها الهائلة والعناصر الإخوانية التى استضافتها منذ انقلاب الدوحة عام 1995. وبدت قطر وكأنها المدافع المخلص عن القيم الغربية تساندها فى ذلك قناة الجزيرة أداتها الإعلامية المضلِلة.
ومن حسن الحظ أن الاتحاد الأوروبى ــ وليس قطرــ هو من حصل على جائزة نوبل للسلام عام 2012 «لجهوده فى دعم الاستقرار فى المنطقة العربية ودعم الديمقراطية والعدالة ارتباطا بثورات الربيع العربى عام 2011». وشهدت تلك الفترة تدخُل الناتو فى ليبيا، وتركها مدمَرة بعد تصفية القذافى على خلاف الأهداف التى نصَ عليها قرار مجلس الأمن 1973 فى مارس 2011 الذى كان أساس التدخل فى ليبيا.
ولقد وفَرت الأزمة السورية لأردوغان ورقة جديدة استخدمها بكفاءة لتحريك علاقاته المتوترة بالاتحاد الأوروبى بعد أن مرَر حزمة من القوانين التى وضع بموجبها القضاء تحت سيطرته وبدأ فى محاصرة خصومه وباتت تركيا الدولة الأكثر انتهاكا لحقوق وحريَات الإنسان كدولة طرف فى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريَات الأساسية (تركيا عضو فى مجلس أوروبا الذى أُبرِمَت الاتفاقية فى إطاره). وساوم أردوغان الاتحاد للحصول على أكبر قدرٍ من المكاسب، مع تفاقم ملف اللاَجئين بعد التدخُل الروسى بأشهرٍ قليلة، حيث صدر بيان عن تركيا والاتحاد فى 18 مارس 2016 حول إدارة ملف الهجرة تضمَن موافقة بروكسل على تحرير التأشيرات للأتراك واستئناف مفاوضات الانضمام وتسريع عملية تحديث الاتحاد الجمركى بناء على طلب أنقرة وتطوير التعاون فى مكافحة الإرهاب وعقد قمم منتظمة بين تركيا والاتحاد الأوروبى.
وفى مقابل هذه المكاسب وافقت أنقرة على توطين اللاَجئين السوريِين الذين قُدِر عددهم آنذاك بثلاثة ملايين مقابل دعم قيمته 3 مليارات يورو على مدى أربع سنوات (من 2016 إلى 2019). ولم تمضِ أشهر قليلة، وفى أعقاب محاولة الانقلاب المثيرة للجدل فى 15 يوليو 2016، تم تجميد العلاقات، خاصةً مع استغلال أردوغان المحاولة للتنكيل بمئات الآلاف من أبناء القوات المسلحة والمواطنين العاديين والمعارضة الذين اتهمهم بالتورُط فيها. ولاشكَ أن الأوروبيين يتابعون حديث أردوغان عن ما أسماه بتحرير «العرق التركى المحاصر» فى البلدان المجاورة عبر منظور ثقافى دينى أيديولوجى يعتبر أن الهوية هى العرق فقط وأن الأقليَات التركيَة فى الخارج تنتمى بهويتها وولائها للوطن الأم تركيا، وهى نظرة تعد صورة طبق الأصل لما تردِده الجماعات اليمينية المتطرفة والعنصرية فى أوروبا. وقد استخدم أردوغان روايته هذه، داخليا، مبررا تدخله فى ليبيا بوجود الآلاف من الليبيين من أصل عثمانى (قدّرهم بأكثر من مليون)، يجب الدفاع عنهم رغم أنهم تعربوا تماما.
***
ومازال العديد من دول الاتحاد ــ باستثناء فرنسا ــ يعتقد فى رواية أردوغان القائلة بأن «تدخُله فى ليبيا هو لمنع انهيار حكومة السرَاج وإعادة التوازن وإجبار حفتر على الجلوس على طاولة المفاوضات». ويشمل الدعم الغربى لأردوغان سوريا أيضا، حيث رفضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى تمويل إعادة الإعمار فى سوريا دون حدوث انتقال سياسى حقيقى وهو ما أعطى زخما للموقف التركى، كما استغلت أنقرة علاقاتها بواشنطن لتحقيق بعض أهدافها فى سوريا. وعلى سبيل المثال، ساهم الدعم الدبلوماسى الأمريكى والألمانى والفرنسى فى مساعدة أنقرة على إقناع موسكو بوقف إطلاق النار فى إدلب وتوقيع اتفاق فى هذا الشأن فى سوتشى فى 17 سبتمبر 2018 والذى يُمثل اليوم أساس النفوذ التركى فى سوريا، إذ غلَ الاتفاق يد روسيا والنظام السورى وإيران عن التعرُض للفصائل المسلحة، بما فيها جبهة النصرة وكل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة فى سوريا.
ولم يكن بإمكان أردوغان السيطرة على مساحة واسعة من الأراضى فى شمال شرق سوريا بعمق تجاوز 30 كم لإنشاء المنطقة الآمنة التى يصبو إليها بدون قتال وإبعاد وحدات حماية الشعب الكردية عبر حدود تركيا الجنوبية بطول 145 كم، لولا الاتفاق الذى وقعته واشنطن مع أنقرة فى 17 أكتوبر 2019 بتعليق الأخيرة عمليتها العسكرية المسمَاة «نبع السلام» التى أطلقتها فى 9 أكتوبر الماضى، لمدة خمسة أيام، لإتاحة الفرصة أمام ما يُسمَى بـ«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» للانسحاب من المنطقة الآمنة. والطريف أن هذه الصفقة شملت أيضا رفع العقوبات الأمريكية التى فرضت على تركيا بسبب العملية. وتُدرك الدول الأوروبية ودول الناتو تماما أن التوغُل العسكرى التركى فى سوريا عزَز داعش وسهَل من هروب مقاتليه أو نقلهم لليبيا. أما البضاعة التى ما يزال يبيعها أردوغان للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى لدعمه فى سوريا فهى أن هناك حاجة لموازنة النفوذ الروسى هناك. وكان استقبال أردوغان فى البيت الأبيض فى 13 نوفمبر 2019، رغم استياء أطراف عديدة حليفة لواشنطن كالأكراد واليونان وقبرص، دالا فى هذا الشأن.
وفى العراق وبينما بات القضاء على النفوذ الإيرانى فى هذه الدولة أولوية أمريكية، تُرِكَت تركيا تفعل ما يحلو لها فى الأراضى العراقية فى ظل الوجود العسكرى الأمريكى هناك. فقد أقامت قوات أردوغان 8 قواعد عسكرية داخل العراق ومواقع أخرى استيطانية، فيما يُؤكِد كثيرون أن الهدف هو إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود العراقية التركية تماما كما فعل أردوغان فى سوريا. ونسمع من حينٍ لآخر عن اختراقات تركية داخل الأراضى العراقية بعمق يصل إلى 200 كم.
والخلاصة أنه رغم وجود بعض الشواهد على أن الغرب بصدد مراجعة علاقاته بتركيا، إلاَ أنه لا يوجد ما يبعث على الاعتقاد بأن هناك تحوُلا ذا بالٍ فى السياسة الغربية تجاه هذه الدولة، فمع التداخل الكبير والاعتماد المتبادل بين اقتصاد الجانبين، لا يبدو أن الأوروبيين مستعدون لرؤية الاقتصاد التركى ينهار. ومن الناحية العملية، ورغم إدمانه انتقاد أوروبا، يُواصل أردوغان التعامل بحماس معها، مُلوِحا بملف الهجرة متى اقتضى الموقف ذلك، ومؤكدا حرصه على الاستمرار فى قلب المنظومة الدفاعية الغربية، وإبقاء بلاده جزءا من «الغرب الاستراتيجى» حيث يعلم أردوغان أن القطيعة مع الناتو ستضع بلاده تحت رحمة عدوُها التاريخى روسيا، وأنه رغم سخاء نظام الدوحة، فإن أوروبا والولايات المتحدة وصندوق النقد الدولى هى الأطراف القادرة على إنقاذ بلاده من أى انهيارٍ مالى، مثلما حدث فى أعقاب أزمة العملة عام 2018، ويُضاف إلى ذلك وضعية تركيا الجيوسياسية المهمة فى الجوار المباشر لإيران وروسيا والعراق وسوريا حيث الحضور الإرهابى لداعش. كل ذلك يدعو قادة الغرب إلى التريُث والحذر فى التعامل مع أنقرة التى يعتقدون أنها مهمة لهم خاصةً فى قضايا السياسة الخارجية، كما أنه برغم مشاكل أردوغان الداخلية وما يُثيره من قلقٍ للغرب وعلاقاته بموسكو، ما تزال تركيا فى نظرهم دولة مستقرة نسبيا فى شرق أوسط مضطرب.

عزت سعد مدير المجلس المصري للشؤون الخارجية
التعليقات