مجتمع طبقي جدا - جلال أمين - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 11:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مجتمع طبقي جدا

نشر فى : السبت 10 أكتوبر 2009 - 10:00 ص | آخر تحديث : السبت 10 أكتوبر 2009 - 10:00 ص

 كلما عدت إلى مصر، بعد غياب طويل أو قصير، راعنى بمجرد أن تطأ قدماى أرض المطار، مظهر وآخر من مظاهر المجتمع الطبقى. موظفون صغار فى انتظار موظفين كبار، شخص يحمل جوازات سفر لمجموعة مهمة من الناس ويقوم بتشطيب إجراءات الجوازات بالنيابة عنهم ليخرجوا من المطار قبل غيرهم، مستخدمون لدى شركات السياحة هم فى الأغلب خريجو جامعة لم يجدوا وظيفة أفضل من أن يحملوا اسم شركتهم ليراها الركاب العائدون... إلخ.

بمجرد أن شرعت فى وضع حقائبى فى الأتوبيس الذى يحملنا من المطار إلى موقف السيارات، انشقت الأرض عن شابين سرعان ما أصبحا ثلاثة، ثم أربعة يتنافسون على مساعدتى أنا وزوجتى فى حمل الحقائب. ثم بمجرد أن وقف الأتوبيس وشرعت فى إنزال الحقائب، انشقت الأرض مرة أخرى عن أربعة شبان آخرين يتنافسون على نفس العمل.

لاحظت أن المتنافسين على القيام بهذه المهمة لا يبدو ما كان يبدو قديما على الشيالين فى مصر. فثيابهم الآن أفضل، وسنهم أصغر، ولكن الذل البادى على وجودهم أفظع مما كان يبدو على وجوه الشيالين القدامى.

اعترانى كالعادة فى مثل هذا الموقف شعور بالذنب، لم أكن أشعر به طوال وجودى بالخارج. فالعائد من دولة أوروبية أو الولايات المتحدة، أو حتى من أى بلد عربى آخر، لا يصادف مثل هذا الموقف أبدا. نعم، هناك بالطبع الغنى والفقير، ولكن ليس بهذا الشكل. نعم، يمكن تقسيم المجتمع هناك إلى طبقات، ولكن ليس هناك مثل ما تراه فى مصر، منذ أول لحظة وصولك إليها، من مزايا يحصل عليها علية القوم، ومذلة الطبقة الدنيا.

المجتمع الطبقى قديم جدا بالطبع، سواء فى مصر أو فى العالم، ولكنه لم يكن دائما يسبب مثل هذا الشعور بالذنب من ناحية ولا كل هذه المرارة فى الناحية الأخرى.

فحتى وقت قريب جدا، ظل علية القوم يعتقدون بإخلاص أنهم يستحقون ما يعيشون فيه من نعيم، إما لأنهم من جنس مختلف أو لأن لون بشرتهم أفضل، أو لأنهم من عائلات ممتازة، أو حتى لمجرد أنهم يملكون أطيانا زراعية شاسعة. وفى جميع الأحوال كانوا يعتبرون هذا الثراء والتميز عن غيرهم دليلا على رضا الرب عنهم.

والطبقة الدنيا ظلت حتى وقت قريب جدا تقبل هذا التفسير وكأنه من المسلمات: «نعم، نحن من جنس ردئ أو لون بشرتنا بشع، أو ولدنا فى عائلات وضيعة لا تملك جاها ولا أرضا، مما يدل على غضب الله علينا لسبب أو آخر».

حدث خلال المائة عام الماضية ما بدد هذه الأفكار أو أضعفها بشدة فى الناحيتين: فلا الجنس ولا اللون ولا السلالة أو التاريخ ولا الدين يمكن أن يبرر هذا التميز الطبقى.

والمسألة كلها ظلم فى ظلم. والذى زاد الأمر سوءا أن كل شىء أصبح معروفا: كل الفقراء يعرفون بالضبط كيف يعيش الأغنياء، إن لم يكن بسياراتهم الفارهة فى الشوارع، فمن خلال شاشة التليفزيون، بل ويعرفون أن علية القوم لم يحصلوا على كل هذا الترف إلا بالنصب.

كان لابد أن يثرى الشعور بالمرارة فى جانب، وبالذنب فى الجانب الآخر، حتى لو تظاهر الجميع بغير ذلك.

«أنا أعرف جيدا كيف حصلت على أموالك أو منصبك»، هكذا يقول القابعون فى أسفل السلم فى أنفسهم، بينما يعرف الآخرون، وإن لم يفصحوا عن ذلك قط، أنهم فى الأساس محتالون، لم يحصلوا على مراكزهم إلا بالقوة أو بالنصب.

فى مناخ كهذا، ليس غريبا أن تنمو أشياء كثيرة مما نضج منه بالشكوى، أنواع جديدة وغريبة من الجرائم، التحرش الجنسى التعصب والتشنج الدينى... إلخ.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات