أسئلة المفاوضات غير المباشرة - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 6:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسئلة المفاوضات غير المباشرة

نشر فى : الخميس 11 مارس 2010 - 9:56 ص | آخر تحديث : الخميس 11 مارس 2010 - 9:56 ص

 كثيرا ما كان يحلو للبعض أن يصف صواريخ المقاومة بأنها صواريخ عبثية، وهو وصف محل نظر، لكن المؤكد أننا نستطيع الحديث بكل اطمئنان عن «مفاوضات عبثية» تجرى بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ سنوات طويلة، ويعلم جميع العرب أنها لن تصل إلى شىء، ومع ذلك يصرون على استمرارها، ربما لإثبات أن ثمة حركة، وفى الحركة بركة كما يقولون، لكن هذه المفاوضات لم تكشف عن «بركتها» منذ بدأت وحتى الآن، وربما لأن هناك ضغوطا حقيقية تمارس عليهم من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة فى اتجاه الدوران فى الحلقة المفرغة للمفاوضات، وإن كان الخضوع لهذه الضغوط لا يبدو مفهوما بالنظر إلى ما يفترض أن العرب يملكونه من أوراق، خاصة أن المطلوب منهم ليس مواجهة الولايات المتحدة أو إسرائيل، وإنما مجرد الكف عن المشاركة فى لعبة ثبت للجميع عقمها، ولتواصل باقى الأطراف غير العربية هذه اللعبة السخيفة إن أرادت، ولكن بغير شرعية عربية.

بدأت قصة قرار «المفاوضات غير المباشرة» الذى أوصت به لجنة متابعة مبادرة السلام العربية وتبناه مجلس الجامعة على المستوى الوزارى فى دورته الأخيرة فى الثالث من الشهر الحالى بمؤشرات علنية تبعث على شىء من الأمل، فقد نشر فى وسائل الإعلام العربية عشية اجتماع اللجنة أن القيادة الفلسطينية قد دعتها إلى «عدم تركها وحيدة أمام الضغوط الهائلة التى تتعرض لها لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل»، وكانت القيادة الفلسطينية حتى ذلك الحين تتمسك بموقفها الذى يربط بين العودة للمفاوضات وضرورة وقف النشاط الاستيطانى الإسرائيلى، ولذلك كان من حق حسنى النوايا الذين لم يخبروا الدهاليز الواقعية للسياسة أن يتصورا أن القيادة الفلسطينية تبحث عن دعم عربى لموقفها الرافض لاستئناف المفاوضات فى مواجهة الضغوط الأمريكية. تعزز هذا التصور بتصريحات السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية الذى نسبت له وسائل إعلام عربية قوله إن لجنة المبادرة العربية ستعبر عن ثوابت الموقف العربى من الطرح الأمريكى فيما يخص عملية السلام، فى ضوء التصرفات المؤسفة التى قامت بها إسرائيل فى القدس والحرم الإبراهيمى، وتأكيده أن هذه التصرفات تنذر بكثير من المخاطر، معتبرا أن إسرائيل تتعاطى مع المفاوضات على نحو هزلى.

غير أن قرار المجلس جاء مناقضا لكل هذه المقدمات، فقد قبل بفكرة إجراء مفاوضات غير مباشرة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، مع ربط ذلك بسقف زمنى حدده مجلس الجامعة بأربعة أشهر، كما طلب من الإدارة الأمريكية العمل على تجميد الاستيطان فى الضفة الغربية، ووقف التصرفات الاستفزازية والاعتداءات على المقدسات من قبل إسرائيل. فسر هذا الموقف بأنه محاولة أخيرة لتسهيل الجهود الأمريكية بشأن عملية التسوية، رغم عدم الاقتناع بجدية إسرائيل فى عملية السلام. وإذا مضت الشهور الأربعة دون أن يتحقق نجاح فإن الدول العربية ــ وفقا لقرار المجلس ــ ستدعو إلى عقد اجتماع لمجلس الأمن لمعالجة النزاع العربى ــ الإسرائيلى بكل أبعاده، والطلب من الولايات المتحدة عدم استخدام حق النقض.

يثير هذا القرار علامات استفهام عديدة لعل أولاها ترتبط بتوقيته، فقد جاء القرار فى مناخ صورته بدقة تصريحات الأمين العام التى سبقت الإشارة إليها، ويمكن أن نضيف إلى أبعاد هذه الصورة ما يجرى فى القدس والضفة من تسارع فائق فى معدلات الاستيطان، وقرع طبول الحرب فى كل اتجاه، مع إخفاق الإدارة الأمريكية فى إقناع الحكومة الإسرائيلية بوقف الاستيطان، وهذا كله على خلفية الموقف العام للدولة العبرية من قضايا التسوية النهائية، والسياسة شديدة التطرف التى تتبناها حكومات إسرائيل اليمينية عادة فى إطار هذا الموقف الإسرائيلى العام، وبصفة خاصة الحكومة الحالية التى يكفى للدلالة على سوء موقفها أن يكون على رأس وزارة الخارجية فيها شخص بتطرف ليبرمان وخبله، وأن يعتبر رئيسها فى حكم المفروغ منه أن يبقى لإسرائيل وجود عسكرى فى غور الأردن، حتى لو قامت دولة فلسطينية.

ووفقا للخبرات التفاوضية فإن قبول التفاوض فى هذه الظروف يعنى تسليما ــ ولو ضمنيا ــ بالتصرفات الإسرائيلية، أو هو على أحسن الفروض يعنى أن الفلسطينيين سوف يبدأون التفاوض من نقطة أسوأ بالنسبة لهم من تلك التى بدأت منها آخر جولة من جولات هذا التفاوض مع إسرائيل.

أما ثانية علامات الاستفهام فتتعلق بالسقف الزمنى الذى وضعه قرار مجلس الجامعة للمفاوضات غير المباشرة التى وافق عليها ومدته أربعة أشهر، وهو «تشدد» يحمد للمجلس، لكن الأمر يتطلب تذكرة بعدة أمور عن البعد الزمنى فى عملية التسوية مع إسرائيل،فهذه العملية قد بدأت منذ نحو ثلاثة وأربعين عاما فى أعقاب هزيمة1967، ولا أحسب أنها يمكن أن تكتمل قبل أن تتم نصف القرن عمرا، ويعود هذا البطء إلى عوامل عديدة منها التعقد البالغ فى قضايا الصراع، والاعتقاد العربى الخاطئ بأن تبنى خيار السلام يعنى إسقاط الخيارات الأخرى، مع أن الأول لا يمكن أن يصح أو يكتمل إلا إذا كان معززا بهذه الخيارات الأخرى (هل كانت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل مثلا ــ على الرغم من كل التحفظات أو الملاحظات عليها ــ ممكنة دون حرب أكتوبر؟)، وتعمد إسرائيل إبطاء خطى التسوية كى تتمكن من خلق واقع جديد فى الأراضى المحتلة (انظر على سبيل المثال ما فعلته فى القدس الشرقية منذ 1967)، والغياب الكامل لقدرة أى إدارة أمريكية ــ ناهيك عن قوى دولية أخرى ــ على الضغط على إسرائيل باتجاه قبول التسوية.

فى الإطار السابق سمعنا عن أسقف زمنية عديدة منذ بدا أن عملية التسوية تأخذ منحى جادا، فهذا سقف اتفاقية كامب ديفيد الأولى فى 1978، والذى كان يفترض أن تتم معه التسوية فى 1983، وهذا سقف اتفاقية أوسلو 1993، والذى تحدد بموجبه عام 1999 لإتمام عملية التسوية، وهذا سقف خارطة الطريق 2002، والذى كان يخطط لقيام الدولة الفلسطينية فى 2005، وهذا سقف مؤتمر أنابوليس فى خريف 2007 الذى حدد نهاية 2008 (أى نهاية ولاية الرئيس الأمريكى السابق) موعدا لقيام الدولة. فهل يعقل بعد هذا كله أن يكون لدينا سقف يمتد لأربعة أشهر فحسب، حتى ولو كان هدف المفاوضات المقبلة هو مجرد الاتفاق على حدود الدولة الفلسطينية كما صرح مسئول فلسطينى فى السلطة؟ إن الاتفاق على حدود الدولة يعنى بحثا جادا فى أهم قضايا التسوية النهائية، ويكفى مثلا أنه يتقاطع بوضوح مع قضيتى الاستيطان والقدس، فعن أى شىء نتحدث إذن؟

ثالثة علامات الاستفهام وآخرها تتعلق بالخيار العربى بعد الإخفاق المتوقع لهذه المفاوضات، ويتمثل فى دعوة القرار إلى عقد اجتماع لمجلس الأمن لمعالجة النزاع العربى ــ الإسرائيلى بكل أبعاده، والطلب من الولايات المتحدة عدم استخدم حق النقض. وليسمح لى القارئ تعليقا على هذا الخيار أن أذكر بسابقة مماثلة لها دلالتها، فعندما اجتمع مجلس الجامعة العربية على المستوى الوزارى، فى دورة طارئة، عقب العدوان الإسرائيلى على لبنان فى صيف 2006، توصل إلى أن عملية السلام قد «ماتت»، وأن العرب يتجهون طواعية إلى مجلس الأمن بقضيتهم بعدما فشلت كل الآليات والمبادرات والجهود السابقة وأفرزت ما وصلت إليه المنطقة من خطورة. وفى الدورة الطارئة التى عقدها مجلس الجامعة فى أغسطس 2006، دعا مجلس الأمن إلى الانعقاد على المستوى الوزارى فى سبتمبر من السنة نفسها للنظر فى صيغة لتسوية الصراع العربى ــ الإسرائيلى وفقا لمرجعيات عملية السلام مع إشراف كامل على المفاوضات، و«تحديد إطار زمنى لإتمامها» (لاحظ الدأب على التمسك بالإطار الزمنى)، والاتفاق على الضمانات الدولية الخاصة بالتنفيذ.

عقد مجلس الأمن بعد ذلك اجتماعه بناء على الطلب العربى فى سبتمبر 2006، واعتقدت حينها أن جلسة ــ وربما أكثر ــ سوف تنعقد بعد تمهيد مكثف وجهود مضنية، يطرح العرب فى إطارها قضيتهم باقتدار وجسارة، ويواجهون بحججهم الخصوم فتنشب معركة دبلوماسية وتظهر مشروعات قرارات يحتدم الجدل حولها، إلى أن نصل إلى بلورة نهائية لقرار عام على نحو يمكن أن يحظى بإجماع دولى، فإن لم يكن بالدرجة الواجبة من العمومية وافق عليه أربعة عشر عضوا من المجلس، ليصطدم بالفيتو الأمريكى، فيتحدث العرب بـ«أدب» عن المسئولية الأمريكية فى تقويض السلام.. لكن شيئا من هذا لم يحدث أبدا.

كانت واشنطن قد أبدت تحفظها منذ البداية على عقد ذلك الاجتماع، متخوفة من أن يتحول إلى منبر لمهاجمة إسرائيل، غير أنها وافقت بعد ذلك على عقده بعدما عملت على وضع إطار محدد له ليكون عدد المتحدثين فيه محدودا. تحدث ممثلو الأطراف وفق مواقفهم المعروفة، فطالب رئيس دورة المجلس الوزارى للجامعة آنذاك ببدء مفاوضات بين الأطراف بناء على الاتفاقات المعقودة «بموجب جدول زمنى محدد»، وبمساعدة المجموعة الدولية وإشراف مجلس الأمن. ولم تخيب وزيرة الخارجية الأمريكية ــ مؤيدة بطبيعة الحال بنظيرتها البريطانية ــ ظننا حين نصحت بمساندة جهود اللجنة الرباعية، ودعت السلطة الفلسطينية إلى الالتزام بنبذ الإرهاب والعنف والاعتراف بحق إسرائيل فى الوجود وقبول الاتفاقات والتعهدات السابقة. وشاركت إسرائيل فى الاجتماع بمندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، وليس بوزيرة خارجيتها كسلوك رمزى تؤكد فيه عدم انصياعها للرغبة العربية، وحرص المتحدث الإسرائيلى على أن يؤكد الغياب التام للثقة الإسرائيلية فى الفائدة من عقد مثل هذه المنتديات كما تدل على ذلك التجارب الماضية لدرجة أنه لم يكن متأكدا من حضوره حتى اللحظة الأخيرة.

ثم تتابعت بعد ذلك كلمات خشبية تساوى بين القاتل والمقتول، وإن لم تخل من أمور ذات دلالة أو إشارات إيجابية هنا وهناك. غير أن المفاجأة الصاعقة التى أعترف بأننى لم أتوقعها فى حينه هى أن الجلسة انتهت على هذا النحو، وهكذا فلا مشروع قرار يتصارع حوله فيسقط أو يعدل بحيث يصبح بلا معنى، ولا حتى بيان رئاسى يشير إلى أن المجلس مهتم بالتوصل إلى تسوية سلمية للصراع فى الشرق الأوسط،وقيل إن المعارضة الأمريكية هى السبب فى هذا.

ألم يكن الأجدر بنا إذن أن نبحث عن خيارات جديدة نواجه بها التحديات المتعاظمة؟ ألم يكن الأجدى مثلا للنظام العربى أن يبذل أقصى ما فى وسعه من أجل مصالحة فلسطينية تمثل شرطا لا غنى عنه للحديث عن أى مفاوضات جادة مع إسرائيل ناهيك عن ضرورتها لبناء أى استراتيجية فاعلة لمقاومة الاحتلال؟ ولماذا الإصرار على التمسك بخيارات ثبت عقمها فى مواجهة مخاطر تتفاقم يوما بعد يوم، ولم تعد تمس الفلسطينيين وحدهم، وإنما تهدد المنطقة بأسرها بإعصار لم تتشكل ملامحه بعد، وإن كانت مقدماته أوضح من أن تخطئها عين المراقب؟

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية