رحلة الدول الفاشلة من التنظيم إلى السيطرة - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 20 نوفمبر 2025 4:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

رحلة الدول الفاشلة من التنظيم إلى السيطرة

نشر فى : الإثنين 17 نوفمبر 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : الإثنين 17 نوفمبر 2025 - 6:50 م

لم تولد الدولة الحديثة كى تكون تاجرًا أو مقاولًا أو منافسًا للقطاع الخاص فى الأسواق. نشأت الدولة (ذات المدلول المؤسسى) كى تنظّم، وتشرّع، وتضع القواعد، وتراقب الأداء، وتضمن تكافؤ الفرص، وتحمى الضعيف من تغوّل القوى، وتمهّد أرض الملعب ليجد اللاعبون متنفّسًا للعمل والإبداع وتنمية الثروات. غير أن رحلة كثير من حكومات العالم الثالث حادت عن هذا المسار الطبيعى، فانتقلت تحت ضغط الأزمات أو ترهّل وضعف المؤسسات أو غواية الانفراد بالسلطة من مقام المراقب المنظّم إلى مقام الفاعل الوحيد.
لقد كشفت التجارب المتعاقبة أن فشل الحكومات فى أداء دور المنظّم الفعّال، حيث تتطلب المهمة كفاءة مؤسسية وحيادًا وشفافية، قد يغريها بالتحوّل إلى لاعب مباشر. فإذا عجزت عن تنظيم المنافسة، لجأت إلى احتكار السلع والخدمات، وإذا أخفقت فى ضبط الأسواق، اتّجهت إلى امتلاكها، وإذا ارتبكت فى إدارة عملية ديمقراطية جففت منابع المشاركة السياسية الحرة، وإذا لم تنجح فى إدارة المرور أو الأراضى أو المرافق، طمحت لأن تصبح المقاول والمموّل والمشرف فى وقت واحد! وبذلك يتحوّل كل إخفاق تنظيمى إلى مدخل ومسوّغ لتوسّع نفوذ الدولة وتضخّم أعمالها وجهازها الإدارى بجيوش من العمالة غير المنتجة، بدلًا من أن يكون مدخلًا لإصلاح مؤسساتها.
• • •
تبدأ رحلة الإخفاق المؤسسى حين تفترض أجهزة الدولة أن ضعف التنظيم يمكن تعويضه بمزيد من السيطرة والتحكّم المباشر. هنا يكتمل سوء التقدير، فالحكومة حين تغدو لاعبًا تفقد ميزاتها الأصلية كمنظّم، وهى مفتقرة أساسًا إلى حافزى المنافسة والسعى إلى الربحية. اللاعب الذى لا يخشى الخسارة ولا يسعى للربح يفقد ديناميكية الإبداع. مؤسسات الدولة لا تُفلس، ولا تخرج من السوق، ولا تُعاقب إداريًا على سوء الأداء إلا نادرًا، ولذلك لا تنشأ داخلها الضغوط الطبيعية التى تدفع القطاع الخاص إلى تحقيق الكفاءة. فحين تملك الدولة الشركة والمصنع والمصرف، وتتحكم فى الأسعار وسلاسل الإمداد، تصبح هى الحكم واللاعب فى وقت واحد، فتنجح مرحليًا فى فرض السيطرة الشاملة لكنها تفشل فى إنتاج القيمة وتحقيق النمو وعدالة التوزيع للثروات والدخول.
ويتجلى الحرص على السيطرة أول ما يتجلّى فى الأسواق، فحين ترتفع الأسعار أو تهتز سلاسل التوريد، تلجأ الحكومات إلى الاستحواذ على توزيع السلع باعتباره وسيلة لتحقيق الانضباط. لكن ما إن تسيطر الحكومة وأذرع الدولة حتى يختل توازن السوق، ويعطب جهاز الثمن، وتتوقّف آلية العرض والطلب المحددة للسعر التنافسى. فتظهر قوائم الانتظار، ويتسع نطاق السوق السوداء، وينكمش القطاع الخاص باعتباره غير قادر على منافسة هذا اللاعب الضخم. عندئذ، يتردّد المستثمرون عن الدخول فى سوق الملكية، وتنشط أسواق الديون، وتتحول الحكومات إلى المدين الأكبر ثم المتعثّر الأكبر. ويتكون لدى المواطن وعى جديد بأن الدولة لم تنجح فى التنظيم ولم توفّق فى السيطرة فأصبحت جزءًا من المشكلة.
وتمتد السيطرة إلى المجال السياسى، فتتحول الانتخابات من مساحة للتنافس إلى ملف يخضع للحسابات الضيقة. وتعجز الدولة عن تنظيم التمويل السياسى وضمان الحياد المؤسسى، فتبدأ فى النظر إلى الانتخابات باعتبارها تهديدًا لا آلية حكم. وتتحول العملية الانتخابية إلى مسار متأرجح بين التدخلات المباشرة وغير المباشرة، فتتآكل الثقة وتتسع الهوة بين المجتمع ومؤسسات الحكم. وتضيع بذلك إحدى أهم أدوات الحداثة السياسية: التداول السلمى على أساس قواعد واضحة.
• • •
وعلى مستوى المرافق العامة، يظهر المشهد ذاته فى الطرق والمشروعات الحضرية. فبدلًا من إصلاح التخطيط أو تطوير القواعد التى تنظّم البناء والمرور والاستثمار العقارى، تصبح الدولة المقاول الأكبر والمشرف الأعلى والحكم النهائى. ومن غير منافسة حقيقية، تغيب الجودة ويتضاعف الهدر وتتوسع شبكات الفساد، ويصبح الطريق نفسه دليلًا على ضعف التنظيم لا على قوة السلطة. وبذلك تتحول أوجه القصور إلى مبرر لمزيد من السيطرة، ويتحول المزيد من السيطرة إلى مصدر لمزيد من القصور.
لكن لماذا تخفق مساعى السيطرة فى كل مرة، وعلى امتداد تجارب الدول عبر العصور؟ لأنها لا تغنى عن التنظيم، بل تناقض جوهره. فالتنظيم يضع قواعد عامة ثم يترك التفاصيل لآليات السوق والمؤسسات، بينما السيطرة تتعلق بكل تفصيلة من دون قواعد مستقرة. والدولة التى لا تمتلك مؤسساتها بيانات دقيقة، ولا تعمل داخل منظومة مساءلة، ولا تواجه ضغوط التنافس أو احتمال الخروج من السوق، يستحيل عليها (مهما تعاظمت قدرتها) أن تدير النشاط الاقتصادى بالكفاءة المنشودة. تلك الدولة سرعان ما تجد نفسها تنفق موارد إضافية لمعالجة اختلالات لم تكن لتحدث لولا تدخّلها، وتسنّ قيودًا جديدة لإصلاح ما أفسدته القيود القديمة، وتوسّع حضورها لملء فراغات لم تكن لتوجد لولا تغوّلها. وهكذا تتضاعف التكاليف المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فى حلقة مفرغة لا تنكسر إلا بإدراك متأخر بأن الدولة انحدرت من موضع التنظيم والرقابة إلى موضع الممارسة المباشرة، وأن الموضعين لا يجتمعان.
وليس هذا المسار قدرًا محتومًا، فقد نجحت تجارب دولية عدة فى تعديل مسارها حين أدركت أن دور الدولة الحقيقى ليس الحلول محل السوق، بل أن تضبطه وتقوّيه. لم تنهض الاقتصادات الناجحة بالسيطرة بل بالتنظيم الذكى للمنافسة، عبر مؤسسات قوية محايدة، تُسنّ فيها القواعد وتُترك الملعب للاعبين. وقد بنت الدول الناجحة نموذجًا يسمّى «الدولة التنموية»، لا لأنها تتدخل فى كل شىء، بل لأنها تتدخل فى الاتجاه الصحيح: اتجاه تعزيز السوق، لا تعزيز نفسها داخل السوق. فتحدد القطاعات الاستراتيجية التى تحتاج إلى يد الدولة «المستترة»، وتترك باقى الأنشطة للتنافس الحر، وتراقب الأداء فى إطار من الشفافية والمساءلة، وتضخ استثماراتها حيث ينكص القطاع الخاص لا حيث ينشط بالفعل، وتحرّض القطاع الخاص على الإبداع والابتكار بدلًا من أن تزاحمه.
• • •
وتُظهر التجارب الآسيوية أن اليابان وكوريا الجنوبية لم تنهضا لأن الدولة امتلكت المصانع أو أدارت الأسواق مباشرة، بل لأن مؤسساتها التنظيمية وضعت قواعد صارمة للمنافسة، وحرضت القطاع الخاص على التوسع فى التصدير والتكنولوجيا من دون أن تزاحمه. تدخلت الدولة هناك بذكاء فى القطاعات التى تستدعى التنسيق المركزى مثل الصناعات الثقيلة أو البنية التحتية، لكنها أحجمت عن اقتحام المجالات التى يمكن للسوق أن ينظّمها بكفاءة أعلى. ولذلك نجت من فخ الاحتكار الحكومى الذى ابتلعت فيه دول عربية وإفريقية مواردها من دون أن تصنع قيمة مضافة.
وعلى الجانب الآخر، تكشف تجارب أمريكا اللاتينية عن كلفة التحول من التنظيم إلى السيطرة. فقد اندفعت حكومات فنزويلا والأرجنتين فى مراحل مختلفة إلى امتلاك الشركات الكبرى، والتحكم فى أسعار السلع، والتدخل فى أدق تفاصيل الإنتاج والتوزيع. بدا الأمر فى بدايته وسيلة لفرض الانضباط وكبح جشع بعض الفاعلين، لكنه انتهى إلى انهيار جهاز الأسعار، وهروب المستثمرين، وتضخم العجز المالى، وانكماش القاعدة الإنتاجية. وبدلًا من معالجة الخلل التنظيمى وتطوير المؤسسات الرقابية، ازداد اعتماد تلك الدول على السيطرة المباشرة، فتوسعت شبكات الفساد وتراجعت جودة الخدمات العامة وتعمقت السوق السوداء. لم تنجح تلك الاقتصادات ــ نسبيا ــ فى الخروج من أزماتها إلا حين بدأت تتراجع الدولة عن دور اللاعب المحتكر وتعود تدريجيًا إلى موضع الحكم، فتنظّم المنافسة وتعيد الثقة وتستقطب الاستثمار.
ويمكن للدولة أن تسلك طريق العودة عبر مقاربات واضحة، تبدأ بإعادة بناء مؤسسات الحوكمة التى تنظّم دون أن تتاجر، وتراقب دون أن تتملك، وتفرض الشفافية دون انتقائية. ثم عبر انسحاب ذكى ومدروس من الأنشطة التى لا تستدعى وجودها المباشر، مع احتفاظها بأدوارها السيادية والاجتماعية فى القطاعات التى تتطلب حماية أو ضمانا. ويوازى ذلك إطلاق قوى الابتكار، لأن الاقتصاد الحديث يقوم على المعرفة، ولا يمكن لجهة بيروقراطية أن تحتكر الإبداع فى بيئة تُكافأ فيها المحافظة أكثر مما يُكافأ التجريب.
وتحتاج الدولة كذلك إلى إعادة تعريف وظيفتها الأساسية بما يتناسب مع مقتضيات العصر. فوظيفتها ليست إنتاج السلع أو تشغيل العمالة فوق الحاجة أو تحصيل الربح، بل ضمان بيئة تنافسية عادلة، وتأسيس قواعد واضحة، وتمكين الفاعلين الاقتصاديين من الازدهار فى إطار من النظام الذى تصنعه ثم تقف على مسافة منه. الدولة القوية هى التى تضمن أن لكل طرف دورًا وحدًا، وأن السوق لا تنقلب إلى غابة، ولا تنقلب بدورها إلى كائن مخيف يتغذى على كل فرص التنمية.
• • •
الخلاصة أن رحلة الانتقال من التنظيم إلى السيطرة رحلة مغرية فى ظاهرها لأنها تمنح السلطة وهم الحل السريع، لكنها مدمرة فى باطنها لأنها تجلب الفوضى من الباب الخلفى لمؤسسات الدولة ذاتها. والعالم الثالث ليس بحاجة إلى مزيد من السيطرة، بل إلى مزيد من التنظيم، وليس بحاجة إلى دول أكبر بل إلى دول أذكى، وليس بحاجة إلى لاعب جديد بل إلى حكم عادل. إنها رحلة تبدأ من سوء التنظيم وتنتهى بتراجع الدولة نفسها، ويؤكد التاريخ أن الدولة القادرة هى التى تضبط السوق لا التى تملكه، وتؤسس النظام ثم تقف على مسافة منه، وتفصل بين دور الحكم ودور اللاعب حتى لا تُبتلَع قواعد اللعبة بمن يلعبها.
كاتب ومحلل اقتصادى

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات