يبدو مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، الذى يختم دورته السادسة والعشرين اليوم، فى أزهى حالاته منذ سنوات عديدة. ففى ظل الأزمات الراهنة التى تعيشها البلدان العربية، وهى أزمات متنوعة الأشكال والمضامين، قد لا نكون فى حاجة إلى التعمق فى تفاصيلها هنا ما دمنا متفقين عليها وعلى تشخيصها، ولكن ليس على حلولها. وفى ظلها تمكن حسين فهمى ومعاونوه من إقامة دورة تحمل رقمًا مدهشًا هو الرقم ستة وأربعون، الذى لم يبلغه أى مهرجان سينمائى فى تاريخنا، ولن نكون من التفاؤل بحيث نتوقع أن يبلغه أى مهرجان سينمائى عربى آخر، وربما ستبلغه قلة فقط من مهرجانات العالم، عدا عن تلك التى بلغته بالفعل!
فمن ناحية التنظيم والاستضافة والتنويع وجغرافية حضور السينمائيين وأفلامهم، ذكرنا الوضع بأفضل دورات الماضى السعيد، الذى حمل توقيعات سعد الدين وهبة وسمير فريد والمؤسسين الآخرين؛ ومن ناحية تحويل التظاهرة نفسها إلى تجمع للسينمائيين العرب وغير العرب فى لفتة نوعية إن لم تكن عددية، بدت الدورة مميزة؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى إقبال جمهور كثيف ومحب للسينما على العروض، الذى كان على الواحد منا أن ينهض باكرًا للحصول على بطاقاته. ولئن بدا اختيار الأفلام على شىء من الفقر مقارنة بأبهى سنوات المهرجان السابقة، وربما مع ما تعرضه مهرجانات أكثر سخاء وقدرة على الإنفاق من «القاهرة»، فما هذا إلا لأن الإنتاج السينمائى العربى نفسه، فى مصر وخارجها، يزداد ترنحًا وتراجعًا لحساب إنتاجات تلفزيونية وما شابه ذلك. فيبدو الأمر نوعًا من التيمن بما قالته نساء مكة لأبى الذلفاء يوم غضب، لأن امرأته لم تلد له الصبى الذى يتمنى، فكان لسان حالهن: «فإننا نعطيك ما تعطينا».
ولكن بما أن ربَّ ضارة نافعة، حفلت الدورة المنتهية اليوم من المهرجان القاهرى ببضع مفاجآت، ربما ينقضى الوقت قبل إدراك أهميتها. ومن بينها مفاجأتان قد لا تكونان بالغتى الأهمية سينمائيًا، بمعنى أنه ليس بينهما تحفة فنية أو سمة تجديدية فى هذا المجال، لكن اجتماعهما معًا فى القاهرة، وتمكنهما من اجتذاب جمهور عريض شاهد كل منهما بأناقة وتمعن، يعد بأن ثمة صنفًا سينمائيًا بديعًا فى طريقه للترعرع واكتساب فضاءات تليق به وقد جاهد على الشاشات طويلًا للوصول إلى مكانته فيها. ونعنى بذلك السينما التى تجعل السينما نفسها، أو ما يتحلق حولها، موضوعها الأساسى. ونعنى بهما الفيلم اللبنانى «حبيبتى ثريا» لنقولا الخورى، والسعودى «ضد السينما» لعلى سعيد.
واللافت أن الفيلمين وثائقيان، كل منهما يكاد يكون الأول لصاحبه، بمعنى خروجه إلى ما هو أبعد من حدود بلاده وأوسع من جمهوره الذى حظى به فى فيلمه أو أفلامه السابقة. معا يقول هذان الفيلمان اليوم، وكل على طريقته، إن هذا النوع السينمائى فى خير، وباتت أفلام «السينما عن السينما» أكثر جاذبية مما كانت عليه فى أى وقت مضى، وأكثر جرأة من ناحية تناول الموضوع والتمكن من الإفلات من الرقابات. ناهيك عن كون الفيلمين يرتبطان أكثر من أى وقت مضى بذات المخرج فى دنو من سينما المؤلف، فى الوثائقى هذه المرة وليس كما الحال دائمًا فى الروائى، وفى الفيلم الطويل هذه المرة وليس كما الحال دائمًا فى الفيلم القصير أو المتوسط. بل ربما يتعين علينا أن نقول هنا إن الطول بدا إلى حد ما عبئًا على الفيلم وعلى جمهوره سواء بسواء. بيد أننا هنا سنحاول قدر المستطاع تمرير هذا العيب، واضعينه فى خانة خبيثة تتعلق بعلاقة العقل العربى عموما بمفهوم الزمن!
المهم أن الفيلم الأول يقدم صورة بديعة لخلفية ما من خلفيات سينما الحرب اللبنانية، ليس بالضبط من خلال حياة وعمل أحد أبرز صانعيها، الراحل شابا، مارون بغدادى، الذى يعتبر واحدًا من قلة من المخرجين من منطقتنا حققوا فوزًا كبيرًا فى «كان» (جائزة لجنة التحكيم الخاصة شراكة مع لارس فون ترير، بفيلمه «خارج الحياة» عام ١٩٩٢)، بل من خلال زوجته ثريا، التى ارتبطت بالسينما من خلال واحد من أول أفلامه - وأفلام الحرب اللبنانية، «حروب صغيرة»، ثم ارتبطت به حبيبةً ثم زوجة، فأمّا للأطفال وأخيرًا أرملة. والفيلم، فيما وراء حكاية «حروب صغيرة»، وحكاية سينما بغدادى بشكل عام، يروى لنا حكاية حب ويوثقها من خلال العلاقة بين الزوجين، كما عاشتها وتفسرها اليوم صاحبة العلاقة نفسها، بصورة بديعة ولكن قاسية، ستبدو فى روايتها وكأنها توصل حكايتهما إلى أسمى درجات الحب... أى الكراهية والرغبة فى الثأر لنفسها إذ جعلها حبها لمارون تنكفئ على مواهبها الخاصة لتعيش تحولاتها من الحبيبة إلى الأرملة، وغالبًا من خلال استعادتها رسائلهما أيام الحب والعيش المشترك، بلهجة تخفى حياديتها، ما يتجاور فيه الحنين على مارون الراحل باكرًا مع إحساس بتحقيق الثأر منه بعد ثلث قرن تقريبًا. الثأر الذى يبدو هنا الوجه الآخر للحب.
ثأر من نوع آخر هو ذاك الذى يمكننا أن نلمحه فى ثنايا وموضوع الفيلم السعودى. فهذا الفيلم، وتحت قناع الحكاية الموثقة بفضل أرشيف بالغ الثراء، والجرأة الاجتماعية والسياسية، أى حكاية السينما السعودية نفسها، والتى إذ يخيل لكثر أنها انطلقت كالعشبة البرية خلال أقل من عشر سنوات، يخبرنا فيلم على سعيد «ضد السينما» أنها فى الواقع حكاية انطلقت قبل ما لا يقل عن نصف قرن، ولكن فى واحد من أصعب المجتمعات فى العالم صعوبة، وبالتالى ما لبثت أن أوقفت نمو سينما كانت، وكما يرينا الفيلم، ولدت فى عهد مؤسس المملكة ابن سعود، الذى يبدو أنه من ناحيته لم يكن من حال دون وجود السينما التى ازدهرت بعض الشىء حتى ثلاثين سنة مضت، حين أتت ظروف يعرفها الجميع لتجعل السينما من المحرمات، غاضة النظر عما تعتبره وثائق عرضها الفيلم، موافقة ضمنية من الملك عبد العزيز، كانت فى خلفية اهتمام أرامكو بالسينما إلى درجة أن هناك أفلامًا حقيقية أنتجت وعُرضت ضمن إطار شركة النفط تلك ولم يعترض عليها أحد.
وطبعًا لا يتسع المجال هنا للتوقف عند أهمية هذا الفيلم والحاجة إليه اليوم، إذ زالت دواعى الحظر القديمة التى كانت، وكما يرينا الفيلم على أية حال، عبئًا بدورها على المجتمع السعودى، ما يفترض عودتنا إلى هذا الفيلم المهم فى مناسبة أخرى تفيه حقه دون أن تنسى أن تأخذ عليه هنات وتكرارات أثقلت الفيلم، لكنها لم تفقده شيئًا من أهميته، أهميته التى ستجعله عملاً لا يُنسى فى الولادة الجديدة لهذا النوع السينمائى الذى يأتى هنا فى المهرجان القاهرى ليقول لنا كم أن سينما الواقع الوثائقية هذه يمكنها، ببعض الجهد والإبداع، أن تكون أقوى وأجمل من سينما التخييل، بل أكثر فائدة وجرأة منها.
ويمكننا أن نختم هنا قائلين: إن مهرجان القاهرة وضعنا مرة أخرى فى مواجهة هذه الحقيقة، ما يجعلنا نأمل فى أن تفتح هذه المبادرة دروبًا جديدة لسينمانا العربية.