افتُتِح المتحف المصرى الكبير بعد طول انتظار فى الأول من نوفمبر عام ٢٠٢٥ باحتفال مهيب أبهر العالم بأسره، وتابعته ملايين العيون من مختلف القارات. وما إن انقضت لحظة الافتتاح حتى توافد الآلاف لزيارته، يملأهم شغف جارف لرؤية مجموعة توت عنخ آمون التى تُعدّ بلا شك أبرز عناصر الجذب، فالمجموعة تُعرَض لأول مرة كاملة فى مكان واحد، فى مشهدٍ يأسر القلوب. ومع ذلك، فإن المتحف يزخر بقطع أخرى أقل شهرة، لكنها لا تقل جمالًا أو قيمة.
ومن القطع الفريدة التى تستوقف الزائر تمثالُ الكاتب الخاص بالمدعو «ميتري»، أحد كبار رجال الدولة فى عصر الدولة القديمة، والذى شغل مناصب رفيعة، منها حاكم إقليم ومستشار مقرّب، وكاهن للمعبودة ماعت. التمثال الخشبى الملوَّن يصوّره جالسًا متربعًا فى هيئة الكاتب التقليدية، ممسكًا بلفافة بردى بيده اليسرى، وقلمًا بيده اليمنى. وعلى الرغم من مظاهر التلف التى أصابته -فالخشب ليس كالحجر فى صموده- فإن عينيه المُرصّعتين بالكريستال الصخرى والكوارتز، والمحدّدتين بالنحاس، لا تزالان تنبضان بالحياة، وتبدو نظراتهما وكأنهما تخترقان الزمن وتحدّقان فى الناظر من عالم آخر.
يعود التمثال إلى الأسرة الخامسة، وقد اكتُشِف ضمن أحد عشر تمثالًا خشبيًا لميترى فى مقبرته بسقارة، حيث يمثل كل تمثال جانبًا من حياته ومسيرته المهنية. وقد أولى ميترى تمثيل نفسه فى هيئة الكاتب عنايةً خاصة، لما لها من دلالات تتجاوز مجرد تصوير رجلٍ يكتب؛ فالكاتب فى مصر القديمة كان رمز النخبة المتعلمة القادرة على القراءة والكتابة، وهما مهارتان نادرتان فى ذلك العصر. ولهذا اكتسب تمثال الكاتب مكانة رفيعة، إذ كانت الإدارة والدولة وسائر شئون الحياة تعتمد على الكتّاب. كما كانت التماثيل تُصنع لتكون «بديلًا» للجسد إن فنى، لتتعرف الروح على صاحبها فى العالم الآخر. وبالنسبة للكاتب، كان التمثال ضمانًا لاستمرار دوره ومكانته فى أبد الآبدين، ولدوام علمه بلا انقطاع.
• • •
كانت للكتابة فى مصر القديمة منزلة عظيمة، فقد ترك لنا المصريون نصوصًا تُبرز مكانة المعرفة وحفظها، وتُجِلُّ دور الكتّاب فى استمرار الحضارة. ومن أهمها ما يُعرف بـ«مدائح الكتّاب» فى نصوص الدولة الحديثة، ومنها نشيد «أبدية الكتّاب» المكتوب على ظهر بردية تشيستر بيتى ٤ المحفوظة فى المتحف البريطانى برقم ١٠٦٨٤. وقد أطلق عالم المصريات آلان جاردينر على مجموعة نصوص مكتوبة على ظهر البردية اسم «مختارات الطالب». وفى السطر الخامس من الصفحة الثانية يبدأ نصٌ رائعٌ عن خلود الكتب ومؤلّفيها، يقول إن الكتابة تمنح صانعها حياة أبقى وأصدق من تلك التى تهبها المقابر المنحوتة فى الصخر، وفيه:
"هؤلاء الكتّابُ الحكماء الذين جاؤوا بعد زمن الآلهة قد غدت أسماؤهم خالدةً إلى الأبد، مع أنهم رحلوا بعد أن أتمّوا أيامهم ونُسِىَ كلُّ ذويهم.
لم يشيّدوا لأنفسهم مقابرَ من النحاس، ولا أقاموا شواهد من معدن السماء، ولم يخلّفوا أبناءً يذكرون أسماءهم، بل أورثوا العالم كتبهم وتعاليمهم..
الإنسان يفنى، وجسده يصير ترابًا، وجميع أقربائه يفنون؛ لكن الكتاب يجعل ذكراه باقيةً على لسان من يتلوه.
الكتاب خير من بيت محكم البناء، ومن مقابر فى الغرب؛ وخير من قصر راسخ، ومن صلاية فى المعبد».
قد أثبت الزمنُ صدق هذه الكلمات؛ فلولا النقوش والنصوص التى تركها لنا المصريون القدماء لما عرفنا اليوم اسم ميترى ولا مكانته، ولظل تمثاله مجرد عملٍ فنى جميل يصوّر رجلًا مجهول الهوية.
• • •
لم يترك المصريون القدماء نصوصًا تُعرّفنا بأسماء شخصياتهم وألقابهم فحسب، ولا النقوش الملكية وحدها؛ بل خلّفوا تراثًا هائلًا من الكتابات التى تكشف الكثير عن مجتمعهم وحياتهم اليومية. فقد دوّنوا الحكايات، مثل قصة سنوحى التى تصف حنين رجلٍ فى المنفى إلى وطنه، وكتبوا نصائح الآباء لأبنائهم، التى تُظهر حكمتهم وقيمهم الأخلاقية. ومن ذلك تعاليم «أنّى» المكتوبة على بردية بولاق ٤ من عصر الدولة الحديثة، وفيها:
«لا تكشف قلبك لغريب، فقد يستغل كلماتك ضدك؛ فالقول الخبيث الذى يخرج من فمك يردده هو، فتجلب لنفسك الأعداء. قد يُحطَّم الإنسان من خلال لسانه».
تُعلّمنا النصوص الجنائزية الكثير عن منظومتهم الأخلاقية، ومن ذلك «الاعترافات السلبية» فى كتاب الموتى، تلك التى يتلوها الراحل قبل أن يُوزَن قلبُه فى الميزان مقابل ريشةِ ماعت، ربةِ الحقّ والعدل. فإن وُجِد قلبُه خفيفًا كخِفّة الريشة، حُسِب من «صادقى الصوت»، ومُنِح نعمة الحياة الأبدية. أمّا إن ثَقُل قلبُه عن الريشة، التهمته كائنةٌ مخيفة تُدعى عميت، فيزول وجوده ويُمحى أثره إلى الأبد، وهنا جزء منها:
«لم أرتكب أيَّ أذى، ولم أبدأ يومى بمطالبة ما هو فوق استحقاقى.. لم أسرق الفقير، ولم أفعل ما يمقتُه الإله، ولم أُشهِّر بخادمٍ لدى سيّده،
ولم أتسبّب فى ألم، ولم أتسبّب فى دموع، ولم أقتل، ولم آمر بالقتل، ولم أُعرِّض أحدًا للمعاناة.. لم آخذ اللبن من أفواه الأطفال، ولم أحرِم الماشية من مرعاها..».
كما وصلنا كثير من مشاعرهم الإنسانية عبر قصائد الحب، مثل تلك المكتوبة على بردية تشيستر بيتى ١، والتى تعود إلى عصر الدولة الحديثة، ومنها: «مضت سبعة أيّام منذ أن رأيتُ حبيبتى، وقد اجتاحنى المرض؛ صرتُ مثقَلًا فى كلّ أعضائى، وجسدى قد خذلنى. وحين يأتى الأطباء إلى، يرفض قلبى علاجاتهم؛ والسحرة عاجزون تمامًا، فلا يدركون علّتى». لو قالوا لى: «إنّها هنا» لانتعشتُ! وذكرُ اسمها يجعلنى أنهض؛ أما رسلُها الذاهبون والآتون، فذلك يُحيى قلبى. إنّ حبيبتى أفضلُ من كلّ الوصفات، وتأثيرها أقوى من الأدوية كلّها».
ومن النصوص الشهيرة نص يعرف باسم «اليائس من الحياة» وهو نص مصرى قديم يعود إلى عصر الملك أمنمحات الثالث ويعّبر عن أفكار شخص يائس من الحياة ومستاء من فساد الزمان وتلاشى القيم، ويتساءل عمن يتحدث إليه فى ظل انتشار الأنانية وغياب العدل، ويصور النص حوارًا بين الكاتب وروحه حول اختيار الموت كخلاص أو الاستمرار فى مواجهة قسوة الحياة، وتحاول روحه إقناعه بقيمة الحياة وجمالها وقسوة الموت. ويعتبر هذا النص نص فلسفى يعبر عن فكر يختلف عن أغلب الكتابات المصرية القديمة.
وإلى جانب الأدب، ترك لنا المصريون القدماء آلاف الوثائق الإدارية والقانونية التى تُعرّفنا بإدارة الدولة، ورسائل تكشف الكثير عن العلاقات الإنسانية، وكتابات جنائزية ودينية وسحرية تُضىء معتقداتهم. ومن خلال هذه النصوص تعرّفنا إلى شخصيات مصرية متعددة وإلى عائلاتهم، فبقيت أسماؤهم حيّة فى الذاكرة رغم فناء أجسادهم.
معاون وزير الآثار لشئون المتاحف الأسبق والمشرف على إدارة المنظمات الدولية والتعاون الدولى الأسبق