من نيويورك إلى غزة... السير فى حقول الألغام! - خالد أبو بكر - بوابة الشروق
الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 9:22 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

من نيويورك إلى غزة... السير فى حقول الألغام!

نشر فى : الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 - 7:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 - 7:35 م

بالكاد طويت صفحة التصويت فى مجلس الأمن على القرار 2803 حتى بدت واشنطن تتصرف وكأن «المهمة أنجزت». لكنّ كل من يقرأ سجلّ مشاريع «القوى الدولية» فى المناطق المضطربة يعرف أن ما جرى ليس سوى افتتاح فصل جديد، تُخفى تفاصيله من التعقيدات أكثر مما تعِد به عناوينه من الحلول؛ فخطة ترامب لإنهاء حرب غزة، بقدر ما تبدو أول خريطة طريق دولية واسعة توافق عليها معظم الأطراف، فإنها تحمل فى داخلها بذور صراع جديد إن لم تُدَر بحسابات دقيقة والأهم: واقعية.

من حيث الشكل، حققت واشنطن مكسبًا دبلوماسيًا نادرًا فى مجلس الأمن: 13 صوتًا مؤيدًا، وامتصاص امتناع روسيا والصين عن استخدام الفيتو. هذا الامتناع هو بحد ذاته تنازل غير معتاد فى الملفات الشرق أوسطية، حيث اعتادت موسكو وبكين استخدام «الشك» الاستراتيجى لإعاقة المبادرات الأمريكية، لكن الامتناع لا يعنى دعمًا، بل يعنى تحفّظًا وحسابات باردة، عبّر عنها السفير الروسى بقوله إن المجلس «يبارك مبادرة أمريكية مبنية على وعود لا نعرف آلياتها». بكلام آخر: القرار مرّ... لكن الثقة غائبة.

• • •

غير أن العقدة ليست فى مواقف موسكو وبكين، بل فى «نقطة الارتكاز» الأساسية للخطة: نزع سلاح حماس عبر قوة دولية.. فهنا بالضبط تسكن الشياطين؛ ذلك أنه لا توجد سابقة واحدة لقوة حفظ سلام دولية نجحت فى انتزاع سلاح طرف مسلح بالقوة أو الإكراه.. التجارب من جنوب لبنان إلى تيمور الشرقية كلها تشير إلى أن القوى الدولية تحافظ على وقف إطلاق النار، لكنها لا تفكك بنى عسكرية قائمة، خصوصًا إذا كانت تحظى تلك البنى بشىء من القبول الشعبى فى بيئتها.. فكيف إذا كانت الحركة المستهدفة - حماس- أعلنت فورًا أنها «لن تتخلى عن سلاحها»، وأن أى قوة دولية لن تكون محايدة بل طرفًا منحازًا للاحتلال؟

اللافت أن واشنطن حاولت هندسة قرار يرضى ثلاثة أطراف متناقضة: إسرائيل، السلطة الفلسطينية، والبيئة العربية. إسرائيل أرادت ضمان «تفكيك قبضة حماس»، والسلطة أرادت شرعية دولية تؤهلها للعودة إلى غزة عبر «مجلس السلام»، والدول العربية اشترطت مسارًا سياسيًا يؤدى إلى دولة فلسطينية. فجاء النص هشًّا، يحوى كل شيء ولا يضمن شيئًا، يَعِد بالدولة «ربما» ويؤكد الأمن «حتمًا»، ويمنح السلطة الانتقالية صلاحيات واسعة بينما لا تزال خرائط السيطرة على الأرض مجهولة.

• • •

هناك سؤال محورى: من سيرسل قوات إلى غزة؟

حتى الآن، لم تعلن أى دولة عربية استعدادًا واضحًا دون وضع شروط مسبقة لإرسال جنود إلى بيئة عسكرية شديدة التعقيد، بينما ترفض إسرائيل مشاركة تركيا، ويَصمت الأوروبيون تجنبًا لتكرار سيناريو أفغانستان مصغر.. وحدها إندونيسيا وأذربيجان ذُكرتا على لسان السفير الأمريكى كمرشحتين، لكن المشاركة الحقيقية لا تزال رهينة حسابات سياسية وأمنية معقّدة.

أما أخطر «تفصيلة» فى القرار فهى أن التفويض قائم حتى ديسمبر 2027. أى أننا أمام ثلاث سنوات من التفويض الدولى فى مساحة صغيرة ومحتقنة كغزة تفتح الباب أمام احتكاكات وربما مواجهات مباشرة بين القوة الدولية وفصائل فلسطينية، ما قد يحوّل مهمة التثبيت إلى «عملية متعددة الجبهات» ترتبط بنتائجها سمعة المنظمة الدولية والولايات المتحدة على السواء.

وفى الخلفية، يظهر تناقض جوهرى آخر: إسرائيل ترفض صراحة قيام دولة فلسطينية، بينما يستند القرار إلى فرضية أن إصلاح السلطة الفلسطينية وتقدم عملية إعادة الإعمار «قد يخلق ظروفًا لمسار نحو تقرير المصير والدولة». أى إن شروط الدولة متروكة لموافقة طرف يعلن أنه لا يريدها. هذه مفارقة ستنفجر سياسيًا عاجلًا أو آجلًا.

• • •

إزاء هذا المشهد، تبدو خطة ترامب كأنها محاولة جريئة لإدارة ما بعد الحرب، لكنها لا تزال نموذجًا كلاسيكيًا لإشكالية صناعة السلام من أعلى إلى أسفل: قرار دولى ضخم، تفويض سياسى واسع، وقوة دولية بلا ضمانات تشغيلية. فى المقابل، هناك واقع على الأرض، وحركة مسلحة ترفض نزع سلاحها، وبيئة فلسطينية ترى فى «مجلس السلام» صيغة انتداب جديدة على طريقة الانتداب البريطانى بعد الحرب العالمية الأولى، وبيئة إسرائيلية تعتبر أى تلميح لدولة فلسطينية تهديدًا وجوديًا.

هذه الفجوة بين «خطة كبرى» و«واقع شائك» هى التى ستحدد مستقبل غزة لا نص القرار، وإذا كان التصويت فى مجلس الأمن لحظة مفصلية، فإن الامتحان الحقيقى يبدأ الآن... فى التفاصيل.. حيث تكمن الشياطين.

التعليقات