الخطاب.. الإخراج وإعادة الإخراج (1ــ 2) - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخطاب.. الإخراج وإعادة الإخراج (1ــ 2)

نشر فى : الثلاثاء 23 يونيو 2009 - 8:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 23 يونيو 2009 - 8:45 م

 أحاطت بالخطاب الذى وجهه أوباما إلى العالم الإسلامى ضجة كبيرة، ساهمت فيها الملابسات التى سبقته وصاحبته وتلته، والتوقعات منه والتعليقات عليه.. فأظهرت ما يتمتع به الشعب المصرى من ضروب الخفة، ومنها خفة الدم. كما أظهرت الإصرار على تناول الحدث ولما تجف مداد الخطاب، فى ظل حمى السبق التى تكاد تكون هى المعيار الوحيد لقياس كفاءة الإعلام والإعلاميين فى عصر سمته الأساسية السرعة المفرطة. وحينما سئلت عقب الخطاب مباشرة عن أهم ما لفت نظرى فيه ذكرت أولا أن أوباما حصر مشكلة العلاقات الأمريكية الإسلامية فى مجموعة محددة من القضايا، وتجنب استخدام مصطلح الإرهاب فتحدث عن متطرفين. ولكنه أصر على ترديد نغمة الهولوكوست ومزاعم الستة ملايين، واعتبر أن «إنكار هذه الحقيقة ينم عن الجهل وبالغ الكراهية». ثم تحدث عن القدس كوطن آمن ودائم لذوى الديانات الثلاث: بدءا باليهود فالمسيحيين فالمسلمين دون أن يوضح مغزى ذلك. ثم أخرج الخلاف مع إيران عن الحدود النووية بينما حذر من سباق تسلح نووى فى الشرق الأوسط، وأحال الأمر إلى قضية إخلاء العالم من السلاح النووى وهو أمر سيطول الجدل حوله سنوات وربما عقودا. وعندما تحدث عن حرية ممارسة العقائد الدينية أقحم ذكر أقباط مصر وموارنة لبنان بما يوحى أن هذا هو ما ينتقص تلك الحرية. وختمت تعليقى بما ذكره عن المساعدة فى التعليم وهو أمر ترد بشأنه الكثير من المحاذير.

كانت تلك هى الانطباعات السريعة من الاستماع إلى الخطاب، أما التعقيب عليه فكان يقتضى وضعه فى نطاقه العام، بدءا بتساؤل عن شخصية المتحدث، بعيدا عن التغنى بلباقته وقدرته على اكتساب أسماع وأفئدة مستمعيه، والانشغال بكيفية تمكنه من الحديث المتواصل دون تلعثم وما إذا كان موهبة تبدو خارقة للمألوف ــ على الأقل قياسا بشخصيات عديدة فى حياتنا العامة ــ وهو ما يذكرنى بالمستعمرين الذين بهروا الأفريقيين السذج بقداحاتهم. ودفعنى هذا إلى أن أستعير من حفيدى كتابا من 442 صفحة ألفه أوباما فى 1995 عن «أحلام من أبى»، عندما انتخب كأول أمريكى من أصول أفريقية رئيسا لتحرير مجلة القانون التى تصدرها جامعة هارفارد‏، وهو ما أثبت كفاءته. وذكر فيه أن سيادة روح الوفاق بين مختلف الملل والنحل فى هاواى ولّد لديه تصورا بأن يسود مثل هذا الوفاق على مستوى العالم، وليس فقط فى الولايات المتحدة. وتحدث عن والده الذى تركه مع والدته البيضاء فى هاواى مستفيدا من منحة أبلغته درجة الدكتوراه فى علم الاقتصاد من جامعة هارفارد الشهيرة، أراد من خلالها أن يتسلح بعلم ينفع به وطنه كينيا، ولكن القدر لم يمهله، فتوفى فى حادث سيارة. وتلا ذلك كتابه عن «جرأة الأمل» وآخر عن «أفكار حول استعادة الحلم الأمريكى»، وهو الحلم بأن تكون الولايات المتحدة وطنا للجميع دون تمييز. وعند حديثه عن نشاطه الاجتماعى بين القساوسة السود، ألمح إلى تشككهم فيما يريده هذا «المسلم» أو ــ وهو الأسوأ على حد تعبيره ــ «الأيرلندى» (ص 279) فى إشارة إلى أنه عانى أيضا من نصفه الأبيض الذى ورثه عن أم من أصول بريطانية درست علم الأجناس وأرشدته للبحث عن الأصول origins. فنحن أمام شخص يتحدث عن الأصول والميراث من الآباء الذين عاشوا أغرابا فى مجتمع حرص على تهميشهم وازدرائهم إلى أن استطاع أن يضع ابنا من أبنائهم على قمة السلطة فيه. وكان طريقه أجندة اجتماعية لرفع شئون المستضعفين من البيض والسود، أكسبته مقعدا فى مجلس المدينة ثم فى مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطى فى 1996. ووجد طريقه إلى رأس السلطة عندما أطلق شعار التغيير بتلك الخلفية، فى وقت تعين فيه على المجتمع الأمريكى أن يراجع مسيرته، ليس فيما أكسبته من عداوات فى الخارج، بل ما أضاعته من فرص وآمال فى الداخل. وعلينا أن ندرك أن أى تغيير يطرحه أوباما فى هيكل العلاقات الدولية لا يرمى إلى مجرد تحسين السمعة أو الاعتذار عن أخطاء ارتكبت بحق الغير، مما قد يفسر على أنه تصويب لسياسة داخلية لتنسجم مع رؤى أطراف خارجية، بل إلى كسب معركة تغيير فى الداخل وتوفير البيئة الدولية المناسبة له. وعلينا أن نتذكر أن خبرته القانونية لم تجعل منه مجرد مدافع عن حقوق مدنية لأفراد أو جماعات، بل أكسبته موقع الأستاذية فى القانون الدستورى، الذى يعنى بالقواعد التى تستمد منها قوانين الحقوق فى المجتمع بأكمله.

فى هذا الساق، وعد أثناء حملته الانتخابية باستخدام أسلوب الحوار ليتخلص من المأزق الذى حصر بلده فى مواسير المدافع. واقتضى هذا أن يعيد تصوير المواجهة من حشد قوى العالم الغربى فى حرب ساخنة مع عدو اتخذ طبيعة مؤسسية توجد بالضرورة فى بلاد بعينها، وتستند إلى عقيدة يدعى أنها تعزز روح العدوان. فقد جاءت النتائج مخيبة للآمال بل ومبددة للموارد مما أضعف التحالف الذى تصورت الإدارة السابقة أنه يحفظ للولايات المتحدة موقعها على قمة الهرم، كزعيمة للعالم المتحضر ومناهضة لقوى الشر. إن ذلك الوعد بالحديث إلى المسلمين كان رسالة موجهة إلى جهات عدة. الأولى إلى المتطرفين تفتح أمامهم بابا ظل مغلقا لعله يحقق ما عجزت عنه لغة الحديد والنار. الثانية إلى الدول الإسلامية التى بات كل منها ينتظر دوره فى قائمة الضحايا، ليزيل عنها هذا الهاجس. الثالثة إلى الداخل الأمريكى ليستقر الوئام بين طوائف المجتمع الواحد، ويساهم فى استعادة الحلم الأمريكى الذى عشقه أوباما وكثيرون من ذوى الأصوات الخافتة فى مجتمع أعمته قوى ينطبق عليه قول الله عز وجل «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى». الرابعة إلى الحلفاء الغربيين لطمأنتهم أن الأمر لن يتم على حساب مصالح يحرصون عليها.

وحينما أبقى أوباما خطابه فى أنقرة فى السادس من أبريل، تبارت اجتهادات عديدة فى تفسيره، وظل بعضها يتردد على سبيل المقارنة بين أنقرة والقاهرة التى ألقى خطابه منها. ولعل من المضحكات الاستنتاج بأن باراك أوباما بارك الديمقراطية التركية بحديثه من على منبر البرلمان التركى، وكأنه أصبح بابا الديمقراطية فى العالم، يبارك من آمن بها، وينزل اللعنة على من يركلها بقدميه. إن الخطاب التركى يجب أن يوضع فى موضعه الصحيح، فهو خطاب موجه إلى دولة بعينها، فإما يوجه من البيت الأبيض عبر الأثير أو إلى ممثلى الشعب المقصود بالخطاب أيا كانت الظروف التى أوصلتهم إلى كراسيهم. وبدأ بالتعبير عن شعوره بالفخار بالحديث إلى المجلس، ومؤكدا تجديده للتحالف القائم بين الدولتين والصداقة بين الشعبين. وأشار إلى أن تلك المناسبة تأتى ضمن أول جولة له كرئيس، شملت قمة العشرين فى لندن وقمة الناتو فى ستراسبورج وقمة الاتحاد الأوروبى فى براغ. ثم قال إن رده على سؤال عما إذا كان يرغب فى مواصلة الرحلة إلى أنقرة واسطنبول قال «إيفيت» بالتركية بدل نعم بالإنجليزية. وليست هذه الطريقة أسلوبا فريدا فى مخاطبة قوم أجانب، فالكثير يستخدمها ولا تقوم الدنيا ولا تقعد. وجاء خطابه مليئا بشواهد العلاقات المتعددة التى تربط البلدين، فأشاد بلاعبى كرة سلة يعزهما الأتراك، فهو نفسه لعب كرة السلة. إن هذه اللغة توضح لباقة تجعله يذكر الأشخاص العاديين بدلا من التهديد والوعيد لإمبراطوريات الشر كما كان يفعل بوش وقريناه أسامة بن لادن وأحمدى نجاد. إنها لغة أصيلة فى ذاته وليست افتعالا للحصول على تصفيق حاد، ولكنها لا تعنى أكثر من ذلك. فالعبرة فى النهاية بما يحتويه عقله من فكر وما تحمله مخيلته من رؤية.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات