«بيت المساكين».. إيمان بحجم الوطن - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 11:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«بيت المساكين».. إيمان بحجم الوطن

نشر فى : السبت 23 يوليه 2022 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 23 يوليه 2022 - 9:30 م

تأسرنى الروايات الذكية، التى تكثف معناها فى صفحات قليلة، فلا تستطرد، ولا تهرب منها الفكرة، ولا تتوه المعانى بين سطورها، والتى تمتلك تماسكا على مستوى الشكل والمضمون، وكلها عناصر تتوافر فى هذه الرواية، صغيرة الحجم، كبيرة المعنى والدلالة.
«بيت المساكين» لمؤلفها مينا عادل جيد، والصادرة عن دار الكرمة، تبدو للوهلة الأولى كرحلة بسيطة، لأسرة قبطية صعيدية، تقيم فى منزل يطلقون عليه «بيت المساكين»، فى مولد السيدة العذراء، الذى يستمر لمدة سبعة أيام، ولكنها رحلة متعددة مستويات القراءة، وكيفما نظرت إليها، وجدت أفكارًا لامعة تستحق التأمل، تتسلل إليك عبر النص والحكاية والشخصيات، وليس رغما عن هذه العناصر، وهذا حال الأعمال الروائية الناضجة.
هذه البساطة خادعة، وذلك السرد الذى يدور، باستثناء افتتاحية قصيرة، وختام أقصر، على لسان صبى على أعتاب البلوغ، أعمق بكثير مما يبدو:
فقد تستقبل النص كحكاية واقعية عن مجتمع الأقباط، عن طقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم، وعن حياتهم البسيطة، التى لا تختلف عن حيوات المصريين عمومًا، وتحديدًا أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
هنا لا فرق تقريبًا بين أسرة الصبى صموئيل/ السارد، وبين أى أسرة مصرية، رغم حضور الهوية والطقوس الدينية، ولكن حتى هذه الطقوس، القادمة من مولد العذراء، لا تختلف عموما عن طقوس موالد أولياء الله الصالحين عند المسلمين، فهناك الألعاب المعتادة قبل الليلة الكبيرة، وهناك الفول والحمص والطعام والشراب، وهناك المنشد أو المداح، الذى ترافقنا نصوصه الجميلة عبر الرواية، وهناك النذور، مثل الحَمَلْ الصغير، الذى يحمله صموئيل معه، وكان والده قد نذر أن يذبح الحمل فى نهاية المولد، أملًا فى أن تستجيب العذراء لدعاء الأسرة، بأن تشفى أم صموئيل من السرطان.
ولكن هذه الرحلة الطقسية فى أيام الأسرة السبعة، سرعان ما تأخذ مستوى أعمق من خلال طرفى الصراع المؤثرين على عالم الصبى صموئيل، وهما: بطرس، الشقيق المتعلم، والذى يمثل صوت العقل، فى انتقاد الطقوس الموروثة، مثل وشم الصليب، والذى يخضع كل شيء للمناقشة، وفى مقابله يقف جوارجيوس، المسكين الزاهد، والذى يبدو مثل أولياء المسلمين، فى إيمانه العجيب، وفى حضوره واختفائه الخارقين، وفى رموز عباراته، التى تكشف للصبى صموئيل عن عالم الأسرار، وعن المعانى وراء الطقوس.
صموئيل يستريح لصوت العقل والمنطق الذى يمثله بطرس، ابن الفكر الغربى المستنير، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل المعانى الروحية التى يطارده بها جوارجيوس المسكين، والمولد مكان مثالى لتجلى الإيمان والروح، بل إن الجميع ينتظرون ظهور أم النور فى نهاية أسبوع المولد، كما أن الحمل الصغير، ينتظر الذبح كأضحية، تعبر عن ثقة المؤمن بالقربان، وبرب القرابين.
فى مستوى ثالث، فإن صموئيل كصوت لا يقدم فى المفتتح كصبى صغير، سنعرف أنه الآن رجل كبير، يحتل منصبًا فى اليونيسكو، وهو يتذكر فى رحلة عودته للوطن ذكريات طفولته، أى أن رحلة المولد هى جزء من ذاكرة صموئيل العائد للوطن، والربط بين الوطن والمولد يجعلنا أمام فكرة مدهشة، تعلن عن نفسها بوضوح فى حلم لصموئيل الصبى، تتزاحم فيه ملامح وطقوس الديانات التى عرفها المصريون، بما فى ذلك الديانات الفرعونية، فكأنها مظاهر متعددة لمعنى الإيمان، للجانب الروحى للمصريين، والذى لا يمكن أن يتراجع أو يتلاشى، عبر العصور.
بهذا المعنى فإننا أمام نص عن الحياة الروحية للمصريين، من خلال الحياة الروحية للأقباط، نص عن القلب والإيمان، الذى يمكن اعتباره عنوانًا للحضارة المصرية أمس واليوم وغدًا، والذى كانت له تجليات حضارية مادية عند الفراعنة مثلًا، سواء فى منازل الموت، أو فى طرق الحياة، أو فى المعابد والأهرامات، أو فى فكرة العالم الآخر والحساب، أو فى عملية التحنيط.. إلخ، وله تجلياته اليوم فى دور العبادة، وفى الموالد أيضًا كتعبير عن الإيمان الشعبى.
القلب والروح هما عنوان الرحلة، سواء فى عودة صموئيل إلى وطنه، أو فى عودته بالذاكرة إلى المولد، ومشهد ظهور العذراء وأدعية الزوار لها، يبدو كمشهد روحى خالص، ولا ننسى أنه يروى من وجهة نظر صموئيل الصبى، الذى حسم انحيازه، بأن يتبع قلبه، رغم يقظة عقله، وبذلك لا تبدو الطقوس هدفًا فى حد ذاتها، ولكنها كمعراج روحى للوصول، وكتعبير عن الإيمان العميق.
بامتزاج الطقس بالدين بالوطن، ومن خلال تفاصيل شيقة عن المولد والأماكن، وبتحويل لوحات السرد إلى «أوشيات»، أى «ابتهالات» فى الصلوات المسيحية، فإن عناصر الخاص والعام تمتزج وتتماسك، وكلما اقتربنا من نهاية الرحلة، ظهر آخر لها، وزادت معرفتنا بدلالاتها، فى نفس الوقت، الذى تتكشف أسرارها لبطل الرواية صموئيل، فكأننا معه واقعًا وفكرًا، خصوصًا مع نجاح دمج مناظرات بطرس وجوارجيوس فى ثنايا النص.
تكتسب بعض الشخصيات والأشياء أيضًا دلالات تتجاوز تفاصيلها الواقعية، بطرس وجوارجيوس مثلًا يعبران أيضًا عن أفكار وتيارات فى التعامل مع الظاهرة الدينية والروحية، والحَمَل الصغير يبدو مفتاحًا آخر للفهم، ومصيره يفتح باب التأويل، والصبى الذى يحمله يريد أن يستعيد معنى «الراعى الصالح»، وحضور صورة الأب القوى الخارق، سواء فى ألعاب المولد أو فى مشهد إنقاذ زوجته من الغرق، أو فى التغلب على اللصوص، يضخم من معنى «الأب الحامى والقوى والحافظ»، وهى فكرة لها تجلياتها الدينية، وصورة الأم المعطاءة الصابرة رغم آلامها، تردد أصداء صورة الأم المقدسة (العذراء)، وأم صموئيل، والأسرة كلها، تعود إلى الأم المقدسة، لكى تنقذها من المرض والبلاء.
يؤدى المولد دوره كتعبير عن الإيمان ليس إلا، مثلما يؤدى جوارجيوس دوره كتجسيد لهذا الإيمان، فهل لا يزال هناك معنى للتساؤل عما إذا كان المسكين جوارجيوس شخصًا أم أنه روح قادرة ومعجزة تسير على قدمين؟
فليكن ما تراه فيه، فقد عبّرت الرواية عن الإيمان فى كل مستوياته: واقعًا ورمزًا وطقوسًا.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات