تلك الخيبات التى صنعت رواية! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 13 يوليه 2025 12:35 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

تلك الخيبات التى صنعت رواية!

نشر فى : السبت 12 يوليه 2025 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 12 يوليه 2025 - 8:00 م

هذه الرواية تقدم تجربة جريئة وماكرة فى الشكل وفى المضمون، بطلها يحمل طابعًا وجوديًّا بوحدته وحيرته، وضجره، وبحثه عن مرفأ وملاذ، ويبدو مثل سيزيف معاصر، بينما يختلط السياسى بالاجتماعى بالثقافى بالعاطفى والجنسى، على نحو معقد ومحكم.


الرواية الصادرة عن دار ديوان للقاص والروائى الجزائرى محمد جعفر، ولعبتها تبدأ من عنوانها «مع النساء ضد الحب»، إذ تظن أنها مجرد حكايات عاطفية مألوفة، رومانسية وشهوانية. الرواية فيها كل ذلك بالفعل، إذ يمكن قراءتها فى مستواها السطحى والعابر، باعتبارها سيرة رجل وحيد مع النساء، قلبًا وجسدًا، ولكننا سرعان ما نكتشف أن الحكايةَ عن خيباتٍ كثيرة، أحد وجوهها تلك الخيبات النسائية المتتالية، وسرعان ما نتأكد أن هذا النشاط العارم فى مطاردة المرأة، يعقد الأزمة ولا يحلها، لأننا أمام بطل مهزوم بالأساس، وأنه صياد بلا شبكة فى كل الأحوال.


أن يرفض بطلنا الحب، مع حاجته العارمة للمرأة، فهذا يعنى أن تصبح النساء أدوات للمتعة الجسدية فحسب، وكأننا أمام مراهق كبير، ولكن اللعبة تأخذ شكلًا أكثر تعقيدًا، عندما يقوم محمد جعفر بمنح اسمه وشخصيته وحرفته كروائى لبطل روايته، ثم يجعل من صديقه الحقيقى الروائى أحمد طيباوى، صديقًا لبطل الرواية، ويذكر أيضًا أسماء معروفة فى الوسط الثقافى والأدبى الجزائرى، ويكمل اللعبة بذكر الحروف الأولى من أسماء شخصياتٍ أخرى، فيأخذنا الإيهام إلى حدود رواية السيرة.


ولكنى أميل إلى قراءة أخرى لها شواهدها وتجلياتها فى النص، وفى سياق السرد العربى، فالمألوف والمتوقع أن يلجأ الروائى العربى إلى أقنعة شخصياتٍ أخرى يتستر خلفها، كلما كان موضوعه شائكًا أو حساسًا، ولكن محمد جعفر اختار العكس، ليحقق صدمة مضاعفة، وليقول من البداية إنه حاضر فى روايته حضورًا استثنائيا، ولا مشكلة لديه أن تبحث عن الواقع أو عن الخيال فى حكايته، لأن هذا الروائى، الذى صار شخصية فنية تمامًا، حرة ومنطلقة، يعبّر عنه وعن جيله تمامًا، إلى حد أنه منحه اسمه وصفاته.


الحكاية ــ إذن ــ ليست عن هذه النماذج النسائية الكثيرة فى الرواية، ولكنها عن هذا الروائى الذى يشقى بوعيه وبقلبه وبجسده معا، ولا حدود أو فواصل بين كتابته وحياته، لا بل يمكن فهم هذه الرواية باعتبارها كواليس كتابة رواية، ستنقذ محمد جعفر، الشخصية الفنية، ومحمد جعفر الروائى الواقعى، من «حبسة الكتابة».


هذه اللعبة المعقدة أذابت الحدود بين الفن والواقع، إذ يمكنك أن تخمّن من تفاصيلها ما هو واقعى وما هو خيالى كيفما تشاء، ولكن لا تنسى أبدًا وأنت تقرأ أن بطل الرواية يحتج على فهم العامة السطحى لفن الرواية، بل هو ناقم عمومًا على ما وصل إليه حال القراءة والكتابة.


وبعد أن يستدرجك النص إلى حكايات صائد النساء، وبحثه المحموم عن جسد ومغامرة سريعة، نكتشف أننا أمام شخصية تعيسة، وحيدة، منعزلة عن الوسط الأدبى، بلا صديق سوى أحمد طيباوى، متعثرة فى الكتابة رغم رصيد سابق لا بأس به، والأهم من ذلك أن بطلنا عانى من الفشل فى الحب مرتين، وأن المحبوبتين قد تزوجتا وتركتاه، مما جعله رافضًا للوقوع فى الحب مرة أخرى، ولكن تجربة جسدية مع امرأة تدعى نوال، تعود به إلى أتون الحب والألم والشك، لتورثه خيبة جديدة.


تتسع الدائرة أكثر فى ظل خيبات عائلية، بوفاة الأب، ومرض الأم، وتتعمق بعمل روتينى لا علاقة له بالأدب والثقافة، وفى أجواء خطر كورونا والحظر الصحى، ثم نكتشف أن بطلنا يأسى على فشل الحراك السياسى الذى شارك فيه، لأنه لم يحقِّق ما هو أبعد من عدم تجديد ولاية الرئيس السابق المريض.


هناك تفريغٌ كامل لدوائر التحقق الأساسية، ليصبح جسد المرأة هو البديل الوحيد لإفراغ تلك الطاقة المحبطة، بالإضافة إلى شعور عارم بالاغتراب عن الجميع، والرفض لممارسات الوسط الثقافى الذى يوجه له محمد جعفر، عبر بطله، انتقاداتٍ حادة، بل ويقوم بتعرية جهل المثقفين وسطحيتهم ونفاقهم، وشبكات مصالحهم.


ولا يعفى بطله نفسه من هذه التعرية الكاملة، إذ يمكن اعتبار هذا البطل المؤرق والمنتقد للعالم كله، أسيرًا لذاته ولمتعته، وعندما يعرف بحمل صديقته نوال، لا يشاركها المسئولية، بل يستريح عندما تكفيه مشقة المواجهة.


يتحوّل الخاص والحميم إلى عام جدًا، وتصبح أزمة بطل الرواية غير قاصرة على القلب والجسد، بل هى بعدد خيبات الثقافة والسياسة، ويمكن القول أيضًا إن معاناة بطلنا وجودية أيضًا، فالمسافة هائلة بين أحلامه وطموحاته من ناحية، وبين واقعه وظروف جيله من ناحيةٍ أخرى، وهو شخصية رومانسية، وشخصية واقعية فى نفس الوقت، ومن هنا ينشأ الصراع، دون إغفال صدمات هذا الجيل، وإحباطاته، التى تتطابق مع إحباطات أجيال ما بعد الاستقلال فى العالم العربى.


وسط هذه الفوضى، وذلك الغموض الذى يتجلّى حتى فى معرفة حقيقة نوال، ومدى براءتها أو كذبها، لا يبقى من مكسب سوى تحويل هذه التجارب إلى رواية؛ أى تحويل جبل الخيبات إلى حكاية تثير التأمل والدهشة، وكأن كتابة الواقع، وقراءته حتى من أفراد معدودين، تحمل نوعًا من العزاء، وتضفى بعض المعنى على هذه الدائرة العبثية المغلقة.


استلهام سيزيف فى تنويعة عاطفية جنسية وسياسية وثقافية، يعنى ــ فى جوهره ــ تحويل الأزمة والضجر والعبث واللا جدوى إلى فن، ولعبة محمد جعفر الواقعى عبر قناع شخصية فنية اسمها محمد جعفر هو بمثابة تقديم التحية إلى فن السرد واقعًا وخيالًا.


وكأن جعفر الحقيقى يقول لنا: لا أمتلك سوى هذه اللعبة، أنا مجرد حكّاء جسور، سأكتب ساخرًا متلاعبًا نزقا وساخرًا وجادا فى نفس الوقت. خذ من حكايتى ما شئت، وظن بى الظنون فلن أبالي. ربما كنتُ كل ذلك، أو ربما تخيلتُ على الورق ما لم ولن أفعله أبدًا. ولكن لا تنسَ أن وراء هذه المغامرات الداعرة، روحًا تتعذب، وجيلًا يحلم بمغادرة الوطن.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات