يا زمان الوصل بمملكة الحيرة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 5 يوليه 2025 11:03 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

يا زمان الوصل بمملكة الحيرة

نشر فى : السبت 5 يوليه 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : السبت 5 يوليه 2025 - 6:50 م

وهذه رواية أخرى تستدعى التاريخ من أجل الحاضر، تبعثه عذبا نقيا رومانسيا، وتحاول أن تستلهم منه معنى معاصرًا، وبلغة شاعرية تتسق مع زمان الحب والفن، فى سنوات مملكة الحيرة الغابرة فى جنوب العراق، وفى عصر ملّون بالعشاق والمبدعين.
الرواية كتبها الروائى العراقى حسين السكاف تحت عنوان «مغنية الحيرة»، وصدرت عن دار أجورا المغربية. مؤلفها يقيم مغتربًا منذ سنوات فى الدنمارك، ولكن وطنه العراق يسكن حكاياته، فيحمله معه ماضيا وحاضرا، وليس استدعاء «مملكة الحيرة» عبر شخصياتها الكبرى الشهيرة مثل سنمّار، المهندس الرومى بانى قصر الخورنق، وهند بنت عفزر، المغنية معشوقة الشعراء والكبراء، إلا حلقة فى سلسلة حنين السكاف إلى وطنه البعيد، وانشغاله بحاضره، عبر حيل الفن وألعابه وإسقاطاته الثرية.
كتبتُ أكثر من مرة أن الرواية التاريخية الناضجة معاصرةٌ بالضرورة، فلا معنى لسرد التاريخ من أجل الماضى، لأن هذه مهمة المؤرخ، الذى تعنيه الوقائع ومدى صحتها فى ذاتها، أما الروائى، فالتاريخ بالنسبة له مجرد مادة للتشكيل، وهو يقدم معادلًا فنيا لما يختاره لقطعته المعاصرة الممتزجة بالخيال، والمنحازة أيضًا.
الروائى ابن زمنه الحالى بالقطع، وليس ابن هذا الماضى، وإن أوهمك، عبر فنه، بأنه جزء من التاريخ الذى يكتبه، لغة ومادة وفهما وتفصيلا.
فى «مغنية الحيرة» نموذج مثالى لما نقول، فالتاريخ يتحدث فى سطور قليلة عن المهندس سنمّار الذى ألقى به الملك النعمان بن امرؤ القيس من فوق قصر الخورنق، حتى لا يصنع تحفة مثيلة له، ويتحدث التاريخ فى سطورٍ قليلة عن مغنية الحيرة وحانتها، ولكنه لا يقدم عنها صورة كاملة ووافية.
يأتى السكاف ليملأ كل هذه الفراغات بالخيال، ولكى يربط بين سنمّار وهند، بصنعة فن، عائليا وموضوعيا، ثم ينطلق من الشخصيتين الشهيرتين إلى آفاق أوسع، بحيث نصبح أمام بعث كامل لمملكة الحيرة، بتفاصيلها، وبشعرها، وبأغانيها، وبمبدعيها، وبالمكان والملابس والهيئة، بل وبالعواطف وبالأحلام.
هذا البعث ليس مجانيا أو فى سبيل الماضى، وليس مرتبطًا بمملكة الحيرة وحدها، وإنما نحن أمام مجاز للعراق الذى يحلم به المؤلف، فى زمننا القلق المضطرب، وبعد سنوات من الحروب وعدم الاستقرار.
وليس مثل زمن الحيرة فى تألقه وأيامه الذهبية ما يصلح معادلًا لهذا المعنى، ولذلك جاءت الرواية تحية للفن وللشعر وللغناء، وتحية أيضًا لروح التعايش التى تجسدها صداقات الرواية، حيث تسود المحبة، ويمتد حبل الوفاء بين شخصيات متنوعة الدين والثقافة والعرق، وحيث تزدهر المواهب وتترسّخ الحضارة على ضفاف نهر الفرات.
بهذا الاستلهام الذكى، وبأمر الفن والخيال، تصبح هند مغنية الحيرة، حفيدة للمهندس سنمّار، وتصبح لدينا قصتان معشّقتان معا: قصة غرام سنمّار وعندلة المغنية صاحبة الحانة، وقصة غرام حفيدتها هند، مغنية الحيرة، وحبيبها وزوجها النجّار والنقّاش والرسام والخطاط عبد يسوع الشهير بـ«مرامر».
ستحكى هند لـ«مرامر» حكاية غرام جدّها سنمّار وجدّتها عندلة، والتى انتهت بقتل المهندس المغدور، واختفاء عندلة بحثًا عنه، وسيعاد إحياء الحب فى شكل غرام وزواج هند ومرامر، ولكن ستتكرر المأساة من جديد، وستختفى الحفيدة هند أيضًا.
السرد بأكمله على لسان مرامر، هو الذى ينقل لنا قصتى الغرام المتداخلتين، وهو الذى يعيش ويصف زمان الحب والفن والتعايش فى الحيرة، وليالى الفن والغناء فى الحانة الشهيرة، كما أنه يلتقى الملك النعمان بن المنذر، ويصنع له تحفا خشبية مكتوبة شعرًا بالخط الحيرى.
فى حكايات هند عن جدّتها ما يستدعى عالم ألف ليلة، وتكنيك الحكاية داخل الحكاية، وفى علاقات الحب فى النور دون خوف، وفى الحفاوة بالإبداع والغناء والشعر، وحتى فى تبعية مملكة الحيرة للفرس، وما تنتهى إليه من مأساة، يدفع ثمنها الملك النعمان بن المنذر نفسه، وكذلك فى الإشارة المتكررة لهؤلاء الأغراب الصحراويين الذين يرافقهم الشر كلما ظهروا فى الحانة أو فى الأسواق والطرقات، كل هذه الإشارات فيها ما يُسقط على الحاضر، بل ومن أجل هذا الإسقاط كتبت الرواية.
يستخدم المؤلف ثنائية الحضور والغياب على مدار النص، فالظروف لا تترك العشاق فى حالهم، وعندلة وحفيدتها هند تختفيان وتتركان الحزن والأسى، وكذلك يختفى والد هند وزوجته سيريانا، ويختفى النعمان بن المنذر بالقتل، وتبقى فقط الأشعار والأغانى، وحكايات العشاق فى مملكة الحيرة.
وبينما تنحاز الحكايات لأهل الفن والشعر والأدب والمعمار، فإن صورة الملوك تبدو ملتبسة: هم يشجعون أهل الفن والشعر، ولكن من منطلق ذاتى وخاص، ولا يمكن أن يضمن أحد عدم غدرهم بالمبدعين، فقد قتل النعمان بن امرؤ القيس مهندسه العبقرى سنمّار، وسجن النعمان بن المنذر شاعره الكبير ابن زيد العبّادى، الذى سرعان ما انتحر أو قتل فى محبسه.
هى إذن حكاية عالم أقرب إلى الجنة التى يخلقها الفن والحب، ثم تفسده المؤامرات، والأحوال القلقة المضطربة، والولاءات للممالك البعيدة القوية، وغزو الصحراء القاسية للفرات العذب. وفى كل الأحوال، فإن وجه مملكة الحيرة الباقى والأهم، ووجه العراق بالتالى، هو الفن والإبداع والحب والمعمار، وكل ما تعنيه الحضارة فى تجلياتها المعروفة.
ترصّع النص أبيات الشعر التى لا تنفصل فى الرواية عن الغناء، ولا يخدش هذا البنيان الذكى سوى أجزاء كثيرة من السرد يغيب فيها الصراع، ويستغرق الكاتب تمامًا فى هذا العالم المخملى المتصالح مع الحياة، والذى يبدو مثل «يوتوبيا» مفقودة.
من المفهوم بالطبع أن المعالجة «رومانتيكية» وأن الانحياز للحب مكتسحٌ ومسيطر، ولكن الحياة لا تسير على هذا النحو، والصراع جزء من الحياة، قبل أن يكون جزءًا من البناء الروائى، وعندما عاد الصراع فى الصفحات الأخيرة، استعاد النص قوة تأثيره.
تمنيت أيضًا لو صاحبتنا حكاية سنمّار وعندلة من البداية حتى النهاية بدلًا من إنهائها مبكرًا. ولكن الرواية ظلت تملك سحرها، ربما لأنها بعثت أيامًا عظيمة مفقودة. فيا ليتها تعود من جديد.

 

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات