فى مشاهدة جديدة فى سينما زاوية للفيلم الأمريكى «memento» أو «تذكار»، سيناريو وإخراج كريستوفر نولان، تأكد لى أن الفيلم يتجاوز هذا السرد الشكلى الأقرب إلى اللعبة أو اللغز، إلى ترجمة فكرة أعمق تناسب هذا الشكل، فليست الحكاية مطاردة بوليسية وصولًا إلى القصاص، لكنها مطاردة أصعب، وأكثر مشقة، وبلا نهاية للذاكرة وللحقيقة.
كتب كريستوفر نولان سيناريو الفيلم، وهو عمله الروائى الطويل الثانى، عن قصة قصيرة لأخيه جوناثان نولان بعنوان «تذكّر أنك ستموت»، ورشح الفيلم، الذى عرض منذ ربع القرن، لجائزتى أوسكار لأفضل مونتاج، ولأفضل سيناريو مقتبس عن أصل أدبى، وقد ظهر الفيلم فى قائمة أفضل الأفلام فى تاريخ السينما بحسب بعض النقاد، وحقق إيرادات كبيرة فى وقت عرضه، وما زال فيلم «تذكار» يحتفظ حتى اليوم بجاذبيته شكلًا ومضمونًا، وما زال فيلمًا أساسيًا فى قراءة أعمال كريستوفر نولان؛ لأنه نموذج مبكر لاهتمامه بالذاكرة والزمن والحقيقة النسبية، وكلها أفكار شغلته بعد ذلك فى أفلام تالية.
أبرز ما فعله كريستوفر نولان فطنته إلى أن بطل القصة «ليوناردو» ليس فقط مجرد حالة مرضية غريبة لرجل يعانى من فقدان الذاكرة القصيرة، بمعنى أنه ينسى ما حدث له بعد قليل، نتيجة ضربة على رأسه، من رجل شارك فى اغتصاب زوجته، وقتلها. لكن مشكلة ليونارد أعقد بكثير من عدم قدرته على تكوين ذكريات جديدة، إذ إنه غير قادر على تكوين أى حقيقة ثابتة، يمكن أن ينطلق منها إلى حقائق أخرى، وصولًا إلى قاتل ومغتصب زوجته، ثم الانتقام منه.
المشكلة -إذن- ليست فى الذاكرة المراوغة والمنسية بعد دقائق، وإنما فى «الحقيقة» التى تبدو سرابًا، إذا لم تستند إلى ذاكرة ثابتة، ويمكن الوثوق فيها، وبالتالى فمن الخطأ أن نقرأ الفيلم باعتباره عن الذاكرة وحدها، إذ إنها لا قيمة لها فى ذاتها، ما لم تقودنا إلى حقيقة ما، وإلى أرض يمكن الوقوف عليها.
عند هذه النقطة تطورت الحكاية إلى اعتبار ليوناردو مجازًا للإنسان عمومًا، الذى يطارد الذاكرة، كوسيلة لمطاردة الحقيقة؛ أى أن الحكاية ليست عن محنة ليوناردو المرضية من الخارج، مثل أى فيلم بوليسى، بل هى حكاية عنا نحن كبشر أيضًا، سريعا ما نجد أنفسنا، بتنويعاتٍ مختلفة، بين مطرقة «خفوت» أو «غياب الذاكرة»، وسندان «نسبية الحقيقة».
هذا هو سبب بناء السيناريو الملغز والمعقد والمقصود، فالهدف أن تتحيّر كمتفرج تمامًا مثل ليوناردو، وألا تصبح مجرد مراقب من الخارج له، وهو يحاول تثبيت الذاكرة بالكتابة، ثم بصور الكاميرا الفورية، ثم بالوشم على الجسد.
المطلوب أن ندخل عقل ليوناردو "المشوش"، وأن نرتب معه قطع البازل، وأن نعيش تجربته عبر هذا السرد العكسى بالألوان، وعبر ذلك السرد العادى بالأبيض والأسود، ثم يمتزج السردان وصولًا إلى نهاية، هى فى حقيقتها بداية، لأنه لا يوجد سقف، ولا توجد نهاية لمراوغات الذاكرة، أو لمراوغات الحقيقة.
تجربة فيلم "تذكار" هى -فى جوهرها- استدعاء أكثر تعقيدًا لسؤال "نسبية الحقيقة"، و"التفتيش فى الذاكرة"، و"شهادات الإثبات والنفى والظهور والمحو" كما ظهرت فى الفيلم العظيم "المواطن كين".
هنا من جديد مواطن أمريكى له ذاكرة بعيدة، وبلا ذاكرة حديثة، وهو الذى سيبحث بنفسه على هوية ومعنى وذاكرة وحقيقة، والكلمات المنقوشة على جسده هى مفاتيح الوصول إلى اكتشاف ماضيه وحاضره، مثل كلمة "روزبد" التى كانت عنوان رحلة البحث عن حقيقة، وهوية، وذاكرة، وشخصية، تشارلز فوستر كين.
فيلم «تذكار» هو أيضًا، مثل «المواطن كين»، فيلم عن السينما نفسها، باعتبارها الفن الذى يتلاعب بالصور (ظهورًا واختفاء)، وبالذاكرة والحقيقة (إثباتًا ونفيًا)، وبالزمن، وبالهويات، وباعتباره الفن الذى يمزج الرؤية الذاتية بالموضوعية على نحو معقد وملتبس، وباعتباره الفن الذى يستدرج الجمهور المراقب من بعيد، فيدخله إلى قلب الشاشة متورطًا ومتحيّرًا، وفى فيلم نولان أمثلة نموذجية لكل ذلك:
هناك سيولة كاملة للزمن، واستخدام للسرد من الأمام للخلف، وبالعكس، وهناك الحكاية من زاوية ليوناردو، والحكاية عبر شهادة تيدى رجل الشرطة، وناتالى رفيقة المشوار، وهناك رؤية ليوناردو لتحقيقاته فى قضية شركة التأمين التى عمل بها، والتى أورثته حالة شبيهة بحالة الرجل الذى حقّق معه.
وكلما تقدمنا فى السرد، تبدو الشخصيات وهى تستغل ذاكرة ليوناردو المراوغة للتلاعب به، وبالمتفرج أيضًا، وبينما يقاوم ليوناردو هذا التلاعب، وهو مندوبنا فى الفيلم والدراما، بالكلمة والصورة والوشم، نقاوم نحن بدورنا كمتفرجين فوضى الذاكرة والحقيقة بالتركيز الكامل، وبإعادة ترتيب هذه المشاهد العكسية، وربما احتاج الأمر أيضًا إلى إعادة كتابة المشاهد، بعد تذكرها من جديد، لكى يتم تكوين صورة واحدة، تصنع حقيقة يمكن الانطلاق منها، إلى حقائق أكثر تعقيدًا.
نحن نتذكر أيضًا -مثل ليوناردو- أحداث كل فيلم بعد أن تتلاشى الصور على الشاشة، الأفلام إذن هى تلك «الذاكرة الحديثة» التى نمسك بها بعد انتهاء العرض، لكى نصل إلى حقيقة جمالية أو اجتماعية أو نفسية أو درامية.
نحن لا شىء دون الذاكرة القريبة أو البعيدة، والذاكرة لا شىء دون علاقات وخطوط توصل بينها لتصنع حقيقة؛ أى أنه -ببساطة- لا معنى للذاكرة بدون وعى ومنطق وهوية تمسك بكل ذلك.
أما «الزمن» فهو الإطار الذى يحتوى هذه الحركة المستمرة، وإلا حدث لنا ذلك التشوش الذى رأيناه، بتلاعب نولان بالزمن أمامًا وخلفًا، ومن الأبيض والأسود إلى الألوان، وبالعكس.
يكافح ليوناردو فى الواقع دفاعًا عن المعنى والحقيقة، قبل أن يدافع عن حق زوجته، يدافع عن ذاكرته قبل حقه فى الانتقام، وهو لن يغمض عينيه أبدًا مدعيًا أن العالم لا يحدث فيه شىء. ثم تتصالح ذات ليوناردو مع العالم الموضوعى، دون إغلاق لقوس الصراع.
نقوم بنقش ذاكرتنا على أجسادنا؛ لأن ذلك أهون من ضياع الحقيقة أو الهوية أو المعنى.
ولعل الأفلام وشمٌ آخرٌ للذاكرة على جسد الحياة.