هذا فيلم مدهش وبارع، ينتهى نهاية متفائلة، ولكنه مخيف ومؤرِّق، وفيه مزيج غريب من الواقعية والرمزية، وفيه أيضا الكثير من مذاق الفلسفة الوجودية، التى تضع مسئولية الاختيار على كاهل البشر، والتى تجعلهم فى امتحانات دائمة، يخوضونها محاصرين بالقلق والوحدة.
إنه الفيلم الإسبانى الفرنسى «sirat»، والذى يحمل اسمه نفس معنى الكلمة العربية «صراط»، بل إنه يشرح الكلمة قبل العناوين بأن الصراط هو الجسر الواصل بين الجنة والنار، وهو جسر رفيع للغاية مثل حدّ السيف، يسهل السقوط من فوقه.
هكذا يقول الفيلم مباشرة إن حكايته عن مأزق الوجود بمعناه الشامل، وإن قصته حكاية رمزية، رغم تفاصيلها الواقعية.
براعة المعالجة فى هذه التوليفة الغريبة، وفى الخروج من الخاص العائلى إلى الحالة الإنسانية العامة، وفى تلك المساحة الواسعة التى تجمع بين التشخيص، بمعنى أن لدينا شخصيات من لحم ودم تخوض مغامرة صعبة، ورحلة شاقة، مثل أى فيلم من أفلام الطريق والمغامرات، وبين محاولة واضحة للترميز والتجريد، والذى يبدأ - كما ذكرنا - بشرح معنى «الصراط» قبل العناوين.
تبدو الحكاية بسيطة، مع عدد محدود من الشخصيات، يتناقص عددهم حتى يصبحوا ثلاثة فقط.
مكان المغامرة صحراء وجبال المغرب الشاسعة، والأبطال من السياح الإسبان، جاءوا لحضور الحفلات الموسيقية المفتوحة، والتى يبدأ الفيلم بأحدها، حيث يتم رصّ مكبّرات الصوت الضخمة، ويرقص الجميع فى نشوة وسعادة، وكأنهم يمثلون الحياة فى عنفوانها، ويعبّرون أيضًا عن تجربة روحية تصاحبها إيقاعات عالية، ونغمات صارخة، وملابس الجميع بسيطة وغريبة، تجعلهم مجتمعًا مستقلًا موازيًا أو عائلة منفصلة عن العالم كله، ووسط صحراء لا أثر للحياة فيها.
وسط هذا الحفل يظهر لويس وابنه الصغير إيستيبان وكلبتهما بيبا، لقد جاء الثلاثة فى سيارتهم ليس للرقص والغناء، وإنما بحثا عن مار، ابنة لويس وشقيقة إيستيبان، والتى خرجت لحفلات المغرب، لكنها لم تعد لعائلتها.
يحمل لويس صورتها ويقدمها لكل من يقابله، ويخمن الأب أنها فى إحدى حفلات الهائمين فى الصحراء المغربية، لكن أحدًا لا يتذكر أنه شاهد مار على الإطلاق.
فجأة تقطع الحفل قوات من الجيش المغربى، وتبلغ الراقصين بانتهاء الحفل، وفرض حالة الطوارئ فى البلاد، وتشحن الجميع فى حافلات لترحيلهم، بوصفهم من رعايا دول الاتحاد الأوروبى، وفيما بعد سيتضح أن هذا الحدث الغامض ربما يتجاوز المغرب، وأننا أمام ما يقترب من حرب عالمية ثالثة.
يستجيب الجميع للأوامر، ولكن عدة سياح إسبان يهربون فى سيارتيهم من الترحيل، ويتبعهم لويس وابنه والكلبة فى سيارته، ومن هنا تبدأ الرحلة الطويلة عبر الصحراء، للوصول إلى حفل موسيقى فى الجنوب قرب الحدود الموريتانية، حيث يأمل لويس أن يجد ابنته مار هناك.
يتطور الأمر بين لويس وركاب السيارتين من مجرد تابع يسير خلفهما إلى أن يصبح شريكا فى الطريق والمغامرة، يضع الجميع الزاد فى سيارة واحدة، ويساعد الآخرون لويس فى عبور مياه عميقة، ونلاحظ أن أحد هؤلاء العابرين مبتور الساق، والثانى مبتور كفّ اليد، ومع ذلك فهم طيبون ومتعاونون.
نصبح أمام فيلم من أفلام الطريق والمغامرة صباحا ومساء، إلا أن إشارات متناثرة تخبرنا بأن الرحلة ليست مغامرة طريق عادية، كأن نشاهد مثلا تليفزيونا يذيع القرآن الكريم أثناء محاولة شراء البنزين، ثم يستمر صوت القرآن على صورة الطريق الأسفلتى الممتد بلا نهاية، واللقطة مأخوذة من إحدى السيارات.
نشاهد أيضًا ترجمة بصرية مذهلة للصراط، حيث تسير السيارات الثلاث حرفيًا على الحافة فوق جبل عال، وأسفلهما هوّة عميقة، سرعان ما تسقط فيها السيارة وفيها إيستيبان وبيبا فقط، ورغم انهيار لويس وصراخه وبكائه، فإنه يواصل الرحلة إلى الجنوب مع زملائه.
كلما تقدمنا يصبح الاختبار مخيفًا ومفزعًا، ويصل الفيلم إلى ذروته عندما ينفجر لغم فى إحدى رفيقات الرحلة، بينما كان الجميع يرقصون، ونكتشف أن لويس وزملاءه وقعوا داخل حقل ألغام، لتبدأ واحدة من أقسى تتابعات المغامرة، حيث يضحون بالسيارات لاكتشاف ممر للعبور وسط الألغام، ثم يغامرون واحدًا واحدًا، ونرى أبطالنا وهم ينفجرون، حتى ينجح لويس فى العبور، ويليه فقط رجل وامرأة من رفاق الرحلة.
هؤلاء فقط من تبقى من المغامرة، ثم نرى الثلاثة بجوار عشرات المسافرين فوق سطح قطار يسير فى طريق مفتوح، وحولهم صحراء الموت من كل جانب، بينما تصدح الموسيقى الصاخبة، التى جاء بها المحتفلون فى بداية الفيلم.
هنا مجاز كبير وعميق لرحلة الإنسان المحفوفة بالخطر، يمكنك أن ترى فى الرقص والموسيقى الصاخبة عنوانًا على الحياة، بينما ترى الموت فى الصحراء، وفى حرب عالمية نسمع عنها، وعلى هذا الإنسان المنعزل المحاصر، رغم فقد مار ومصرع إيستيبان، ورغم الجثث والأعضاء المبتورة، أن يسير على الصراط، باحثًا عن حفل غامض قد لا يصل إليه، لكنه ربما يحمل بعض الأمل للويس بوجود مار، وبعض العزاء لمن تبقى من السياح، بحثًا عن إيقاع وروح الحياة الصاخبة.
بدا صوت القرآن الكريم، ومشاهد الأسفلت الطويلة اللا نهائية، وصوت الموسيقى الصاخبة فى قلب الصحراء، ومشهد السيارات الثلاث المعلّقة فوق الجبل، ومشهد انفجار الألغام فى شخصيات أحببناها لطيبتها وبساطتها وحبها للحياة وللموسيقى، بدا كل ذلك رموزًا ذكية لتجسيد أفكار مجردة تمامًا عن التحرر الروحى، وعن مواجهة الفقد، وتحدّى الخطر، لأنه لا بديل عن ذلك.
وعندما يقول لويس إنه نجا من الألغام لأنه لم يفكر، فهو ينحاز هنا للحدس، ولإحساس الروح، وربما لقوة خفية تساعده على النجاة، وإن لم يقل ذلك، وإن لم تتحدث الشخصيات أبدًا عن الجانب الدينى فى حياتها.
هذه حياة الإنسان الرمزية، وقد تحوّلت إلى رحلة واقعية، وهؤلاء الناجون من المأساة هم نحن أيضًا، إذا واجهنا الخطر والفقد، وإذا اتّبعنا موسيقى الروح والقلب، وإذا بحثنا دومًا عن حفل الخلاص والأمل، فى صحراء الموت.