البحث عن عاشق جيمس جويس! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 6 ديسمبر 2025 6:07 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

البحث عن عاشق جيمس جويس!

نشر فى : السبت 29 نوفمبر 2025 - 6:00 م | آخر تحديث : السبت 29 نوفمبر 2025 - 6:00 م

هذا الكتاب البديع علامة مهمة فى تكريس نوعٍ سردى جديد، شيّق ومؤثر، يمكن أن نطلق عليه اجتهادًا مسمى «سرديات البحث والاستنارة»، وقد سبقت الكتاب أعمالٌ أخرى مهمة فى هذا النوع، ولكن كتابنا الذى أحدثك عنه يمثل نموذجًا ناضجًا حقًّا، ويصلح أن نرى فيه كل خصائص تلك السرديات.


من الأمثلة السابقة لتلك «السرديات»، يمكنك أن تذكر كتاب إيمان مرسال عن عنايات الزيات، وكتاب سامية محرز عن جدها الشاعر الكبير إبراهيم ناجى، وسردية منى الشيمى عن الأمير يوسف كمال، ويمكن أن تضيف للقائمة أيضًا كتاب محمد شعير عن سيرة الرواية المحرّمة «أولاد حارتنا».


فى هذه الأعمال رحلة بحث يقوم بها المؤلف بشغف عارم، وبتقاطع واندماج بين الخاص والعام، والذاتى والموضوعى، مع بناء درامى مشوّق يجعل من القارئ شريكًا فى البحث، ويحاول ألا يفرض عليه نتيجة بعينها، وإنما يضع أمامه كل ما أمكن الوصول إليه، على أن يكون النص حرّا وبعيدًا عن النمطية. ولدينا ملمح آخر مهم جدًا هو حدوث نوع من «الاستنارة» وربما «التغيّر» فى رؤية المؤلف بعد انتهاء البحث، وكأنه وجد طريقًا أو طرف خيط أو شعاع نور، ذلك أن موضوع البحث كان شأنا يخصه بالأساس، وكان مرتبطًا بأشياء كثيرة تحيّره وتؤرّقه.


كل هذه الخصائص وجدتها فى كتاب صدر للمؤلف محمد فرج عن دار ديوان بعنوان درامى بامتياز هو: «لم يُعثر عليه.. وقائع تمشية بجوار عوليس.. بحثًا عن دكتور طه»، وموضوع الكتاب محاولة اكتشاف حياة وعالم وأسرار المترجم الراحل الفذّ الدكتور طه محمود طه، الذى خصص معظم جهده وترجماته لأعمال الكاتب الأيرلندى الفذّ جيمس جويس.


وهكذا جاء الكتاب حكاية مزدوجة عن شخصيتين فريدتين، جمعهما الإخلاص للمشروع وللفكرة، والشغف العارم بالإنجاز، وعدم انتظار المكافأة أو النتيجة.


على عكس الدراسات الأكاديمية التى تتحرّى البحث بإخفاء شخصية الباحث، فإن محمد فرج يظهر هنا كبطل فاعل، وكصوت خاص غير محايد، مثل مؤلفى السرديات السابقة المماثلة. ولدينا أيضًا نفسٌ درامى من أول الكتاب إلى آخره، فالمؤلف كاتب قصة قصيرة يعرف كيف يسرد بشكلٍ مشوّق، بنفس الدرجة من الدأب الذى يمارسه بحثًا عن أرشيف د. طه محمود طه، سواء فى «الأهرام» أو «أخبار اليوم» أو «دار الهلال»، أو حتى فى المطبوعات المتخصصة فى الترجمة. كما أن المؤلف يتواصل مع ابن وابنة الراحل الكبير، ومع أمين المهدى ناشر ترجمة د. طه لرواية «عوليس»، والتى استغرق فيها المترجم الكبير عشرين عامًا.


ننطلق من ذات المؤلف إلى جويس وحكاية «عوليس» الأصلية، بل وننطلق إلى أجواء الحياة الثقافية والأدبية المصرية التى ولدت فيها ترجمات د. طه لجويس، وتصبح رحلات البحث والمكالمات الهاتفية ولحظات الإحباط واكتشاف المعلومات، وهواجس محمد فرج وأسئلته خيوطًا فى نسيج محكم، عبر «تيمة» محددة هى أن د. طه وترجماته قد تعرضا لعملية إخفاء كاملة، ولأسبابٍ شتى معقدة.


مظاهر هذا الإخفاء، والذى جعل من عبارة «لم يعثر عليه» عنوانًا للكتاب، تتمثل فى صعوبة العثور على طبعات أعمال د. طه، ومنها موسوعة أصدرها فى العام 1975 عن جيمس جويس، وعدم معرفة مصير ترجمة د. طه لرواية جويس «فينجانزويك»، رغم أن ابن د. طه أرسل للمؤلف فيديو من أمريكا تظهر فيه صفحات بخط يد د. طه للترجمة.


يُضاف إلى معنى الإخفاء ذلك التجاهل، وتلك السطحية الكاملة التى عوملت بها ترجمات د. طه. وينشر الكتاب وقائع ندوة عُقدت فى المجلس الأعلى للثقافة فى العام 1996، واشترك فيها د. جابر عصفور، ود. فاطمة موسى، ود. ماهر شفيق فريد، لم تُعط ترجمات «عوليس» حق قدرها، بل إن د. طه شكّك - فى حوارٍ له - فى أن المشاركين قد قرأوا الترجمة كاملة، باستثناء د. عصفور.


لم يُكرّم د. طه، ولم يفز بجائزة الدولة التقديرية، ربما لأن أعضاء لجنة منح الجائزة لم يجدوا وقتًا لقراءة ترجمة «عوليس» الضخمة، أو لأنهم توقفوا عند سطورها الأولى كما فعلت أنا عندما اقتنيتها فى طبعتها الثانية. وكان د. طه قد أصدر طبعة ثانية منها بعد أن اكتشف الناشرون الأجانب أن الطبعة الأصلية فيها نحو خمسة آلاف خطأ مطبعى، يتعلّق معظمها بعلامات الترقيم.


يبدو د. طه وجيمس جويس كشخصيتين تراجيديتين مسكونتين بهاجس الكمال، وتسيران فى طريق محدد مهما كانت النتائج.


كانا يراهنان فقط على الخلود، وقد أصبح جويس فعلًا من أهم كتّاب الرواية على مر العصور، ومن أبرز ممثلى اتجاه «تيار الوعى»، بينما يعرف المثقفون اسم د. طه محمود طه، يسمعون عن جهده وعشقه وشغفه، ولا يبذلون جهدًا فى قراءة ترجماته أو انتقادها.


تتقاطع حكاية فرج مع د. طه وجويس، فالثلاثة يبحثون بدأب فى اتجاهاتٍ شتى، والثلاثة لديهم أسئلة معلّقة بلا إجابات، وبينما لا ينفى الكتاب صعوبة أعمال جويس وألاعيبه اللغوية المقصودة والتى كانت موضع جدل وما زالت، فإن معنى الحكاية هو أن جهد المخلصين لا بد أن يثير الفضول والاهتمام والمكافأة، وخصوصًا أن د. طه أراد أن يصنع من ترجماته لجويس نصوصًا موازية كاملة، وليس مجرد ترجمة حرفية، وخصوصًا أيضًا أنه كان جسورًا فى نحت مفرداتٍ بالعربية تماثل ما نحته جويس فى أعماله من مفردات بلغاتٍ شتى.
هنا مغزى الرحلة: الجهد لا النتيجة، وهذا التقاطع بين شخصيات مختلفة الجنسية واللسان والسن، ولكنها جميعها لديها هاجس البحث والسؤال.


وهنا أيضًا حرية السرد على صفحات الكتاب، الذى تبدو بعض فصوله مثل دراسات أدبية ممتازة، بينما يختتم فرج رحلته برسالة يوجهها إلى د. طه الغائب الحاضر، وفى هذه الرسالة يؤكد سعادته الشخصية بتلك المعرفة الافتراضية.
«لم يعثر عليه» من أفضل كتب العام، ومن أكثرها عمقًا وإمتاعًا.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات