وماذا عن السردية الإسرائيلية التى تُدرس فى المدارس؟ - سيد قاسم المصري - بوابة الشروق
الإثنين 8 ديسمبر 2025 9:38 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

وماذا عن السردية الإسرائيلية التى تُدرس فى المدارس؟

نشر فى : الأحد 7 ديسمبر 2025 - 6:35 م | آخر تحديث : الأحد 7 ديسمبر 2025 - 6:35 م

تتكرر كثيرًا ــ خصوصًا فى الآونة الأخيرة ــ المطالب بضرورة إصلاح السلطة الفلسطينية حتى إنها أصبحت شرطًا أساسيًا لانخراط السلطة فى المرحلة الانتقالية لإدارة غزة، وأصبح هذا الشرط جزءًا من خطة ترامب التى اعتمدت من مجلس الأمن. وأهم مناحى الإصلاح فى المفهوم الإسرائيلى هو تنقية المناهج الدراسية من دروس الكراهية وإعادة كتابة التاريخ، أما الشرط الثانى المهم فهو ما أفصح عنه نتنياهو من عدم قيام السلطة بصرف مرتبات الفلسطينيين المعتقلين فى سجون إسرائيل؛ لأن ذلك ــ فى عرف نتنياهو ــ يشجع على الإرهاب.

لكن لا أحد يتحدث عن إعادة النظر فى المناهج الدراسية التى تُدرَّس فى المدارس الإسرائيلية، والتى تقلب التاريخ رأسًا على عقب وتظهر الفلسطينيين والعرب بأنهم المعتدون الظالمون الذين رفضوا كل الحلول بما فى ذلك قرار إنشاء دولتين: فلسطينية ــ عربية وإسرائيلية (قرار التقسيم)، وأن الدول العربية المجاورة هى التى اعتدت على إسرائيل ــ الدولة الناشئة الليبرالية الديمقراطية المحبة للسلام ــ عام 1948 دون أى مبرر، وهى التى دعت الفلسطينيين للمغادرة لإفساح الطريق للجيوش العربية الغازية.

وتضيف السردية الإسرائيلية: إن إسرائيل لم تطرد الفلسطينيين بل خرجوا طواعية؛ بعضهم للابتعاد عن الحرب وبعضهم استجابة للدعوة العربية ــ وبالطبع فكل هذا هراء وكذب بواح.

• • •

وفى ذلك يقول المؤرخون الإسرائيليون الجدد، وعلى رأسهم آفى شلايم وبِنى موريس وإيلان بابِه، وهم الذين صدَّقوا من قبل السردية الإسرائيلية التى دُرِّست لهم فى المدارس وفى الجيش، ثم بعد ذلك عندما أزيلت السرية عن وثائق النكبة علموا الحقيقة الصادمة لهم من خلال الوثائق الإسرائيلية والبريطانية التى رُفع عنها الحظر عام 1978 وما بعد ذلك.

وفى ذلك يقول البروفيسور آفى شلايم إنه وصل إلى إسرائيل وعمره خمس سنوات مع أسرته قادمين من العراق، ويحكى أنهم كانوا يعيشون فى رغد من العيش فى بغداد، ويتحدثون اللغة العربية فى بيتهم ويشعرون أنهم عراقيون يهود كما أن هناك عراقيين مسيحيين وكلدانيين وأكرادًا وعددًا آخر من الأقليات.

ويضيف أنهم عندما وصلوا إلى إسرائيل غير مطرودين من العراق، بل بناءً على دعوة من إسرائيل وقيام الموساد بتفجيرات فى الأحياء اليهودية.. وبالطبع كانت هناك كراهية لليهود لم تكن موجودة قبل قيام دولة إسرائيل والنكبة الفلسطينية.

ويضيف شلايم أنهم عوملوا فى إسرائيل كنوع أدنى من البشر وبنظرة احتقار وازدراء حتى إنهم كانوا يُرشّون اليهود العرب بمسحوق الـ D.D.T عند وصولهم إلى إسرائيل.

ويضيف أنه بعد دخوله المدرسة وتعلمه اللغة العبرية وتشربه للسردية الإسرائيلية، اقتنع فى قرارة نفسه أولًا بأنه أدنى من اليهود الأشكيناز (الأوروبيين)، وكان يخجل عندما يحدثه أبوه بالعربية التى لا يعرف غيرها أمام أصحابه، وامتلأ رأسه بالسردية الإسرائيلية الرومانسية وأصبح صهيونيًا متعاطفًا ومعجبًا بما حققه اليهود، واقتنع بأن فلسطين كانت أرضًا خالية إلا من قبائل بدوية رعوية تنتقل من مكان إلى آخر بحثًا عن المرعى لماشيتها، وأن شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» الذى تبنته الحركة الصهيونية هو حقيقة لا ريب فيها.

كل ذلك انهار بعد كشف الحقائق التى يلخّصها المؤرخون الجدد كما يلى: إن الدول العربية لم تغزُ إسرائيل بلا سبب، بل بعد قيام الحركات الصهيونية المسلحة عام 1947 بوضع خطة وتنفيذها لطرد الفلسطينيين من خلال الترويع، أطلقت عليها اسم الخطة (D)، وتقوم على نمط من الطرد المنظم وتدمير القرى ومنع العودة بالقوة وهندسة ديموغرافية مدروسة.. وبذلك لم يكن خروج الفلسطينيين طوعيًا، ولم يكن دخول الجيوش العربية بلا مبرر.

وفى هذا يقول إيلان بابِه فى كتابه The Ethnic Cleansing of Palestine إن التطهير العرقى لم تتيحه الحرب بل كان هدفًا مركزيًا للخطة الصهيونية جرى تنفيذه بوسائل عسكرية ونفسية، وتشمل الطرد العنيف والتفجير والنسف والترويع. ويقول بنى موريس: «خرائط المواقع التى دُمِّرت ــ قبل الحرب ــ كانت تتضمن أوامر واضحة للقوات: ادخلوا وانسفوا المنازل».

ويضيف إيلان بابِه أنه «تم بموجب هذه الخطة تدمير 531 مدينة وقرية فلسطينية بالكامل وتسويتها بالأرض بعد طرد السكان».

ثم بعد ذلك طمس معالم هذه القرى وزراعة أشجار (مستجلبة من أوروبا فى رمزية واضحة لإظهار عدم انتماء إسرائيل لهذه المنطقة)، فى محاولة لطمس الهوية الثقافية والتاريخية الفلسطينية.

وكتب المؤرخون الجدد تتضمن قائمة مفصلة بأسماء القرى التى دُمِّرت ووسيلة التدمير، وهى تقع فى منطقة القدس (وأشهرها دير ياسين والقسطل)، وفى منطقة الساحل (وأشهرها عكا ويافا والقرى المحيطة)، ثم منطقة الجليل (ومنها قرى البروة مسقط رأس محمود درويش والدامون وصفورية)، وعدة قرى فى منطقة الجنوب من بينها عراق سويدان وأسدود القديمة، وهذه مجرد أمثلة من قائمة تشمل 531 مدينة وقرية كما أسلفنا.

فضلًا عن تدمير القرى وإجلاء سكانها بالقوة أو القتل أو الترويع فقد شكَّلت إسرائيل لجنة لمحو آثار الوجود الثقافى الفلسطينى وهى لجنة «إعادة تسمية الأماكن» كجزء من صناعة الذاكرة الإسرائيلية الجديدة، وعملت هذه اللجنة خلال الفترة من 1949 حتى 1953، فغيَّرت أسماء الآلاف من المدن والقرى الفلسطينية، وقد وثق منها المؤرخ إيلان بابِه أكثر من ألف اسم عربى جرى استبدالها بأسماء توراتية أو عبرية جديدة، كما أن الصندوق القومى اليهودى JNF زرع غابات كاملة على أنقاض القرى الفلسطينية المدمرة بهدف إخفاء الجرائم وطمس الحقائق ومنع العودة، كما يندرج تحت هذا الهدف الاستيلاء على آلاف الوثائق الفلسطينية من البيوت والمكاتب والجامعات والمؤسسات بما فى ذلك مكتبة «القدس القديمة» التى نُقلت محتوياتها إلى الجامعة العبرية (وذلك وفقًا لما وثقه المؤرخون الإسرائيليون الجدد).

• • •

كما تتضمن السردية الإسرائيلية نفيًا تامًا لوجود الشعب الفلسطينى كشعب وإنكارًا كاملًا لأى وجود تاريخى للفلسطينيين، تمسكًا بشعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» الذى اعتمدته الحركة الصهيونية منذ بدايتها، وأن الفلسطينيين الذين سكنوا الأرض المقدسة ما هم إلا قبائل رعوية تنتقل من مكان لآخر بحثًا عن المرعى لماشيتها.

وأما الأكذوبة الكبرى الأخرى فى المناهج الدراسية الإسرائيلية فهى النفى التام لتهم التطهير العرقى الذى تم عامى 1947 و1948 وأدى إلى خروج 750 ألف فلسطينى.. فالسردية الإسرائيلية أن الفلسطينيين خرجوا بمحض إرادتهم.

• • •

ومع ذلك فإن إسرائيل تطالب بتعديل المناهج الدراسية الفلسطينية فى إطار ما يسمى الآن بإصلاح السلطة الفلسطينية وإعادة تشكيلها فى إطار من الديمقراطية والحكم الرشيد، وفى الواقع فإن نتنياهو لا يهتم بالحكم الرشيد ولا بالديمقراطية؛ فالديمقراطية أدت إلى وصول حماس إلى الحكم، ولكنه كما صرّح مرارًا يهمه تعديل المناهج الفلسطينية وإزالة التشجيع على الكراهية وحذف الكلمات المتصلة بذلك مثل كلمة «الشهيد» و«الكفاح المسلح» و«المقاومة» والنكبة والتهجير والاستعمار الاستيطانى والقدس الشرقية كعاصمة لفلسطين، كما تعترض إسرائيل ــ ويا للعجب ــ على الإشارة إلى فلسطين كوطن للشعب الفلسطينى منذ آلاف السنين وتطالب بتغيير الخرائط التاريخية لفلسطين بحيث تتضمن اسم إسرائيل وعدم التركيز على النكبة والاحتلال، كما تطالب بإدخال السردية الإسرائيلية المليئة بالأكاذيب ضمن المناهج الفلسطينية.

• • •

وإسرائيل فى محاولتها السيطرة على المناهج الفلسطينية تدرك أن الصراع ليس عسكريًا فقط، بل هو صراع على الذاكرة التى تسعى لمحوها بحيث لا يتبقى إلا السردية الإسرائيلية، وبالرغم من ذلك فإن المناهج الفلسطينية تعترف بحدود عام 1967 كأساس لحل الدولتين، أى أنها تقبل استيلاء إسرائيل على 78% من أرض فلسطين وتقبل بوجود إسرائيل كدولة بجوار دولة فلسطينية فى الضفة وغزة، وتقبل بالتسوية السلمية للنزاع.

• • •

لذلك فأنا أتعجب من قبول السلطة الفلسطينية إعادة النظر فى المناهج دون المطالبة بإعادة النظر فى المناهج الإسرائيلية.. كان من المنطقى والطبيعى أن تطالب بذلك ــ أى المعاملة بالمثل ــ وأن يكون ذلك تحت إشراف اليونسكو. ولكنها لم تفعل، فلمَ هذا الخوف وهذا الانبطاح؟ فنحن لسنا بهذا الضعف، وإنى على يقين أنها لو تقدمت بهذا الطلب العادل لَـلَقِيَت مؤازرة وتأييدًا من غالبية دول العالم، ولرُفع عن كاهلها الضغط الإسرائيلى على الأقل فى هذا المجال.

• • •

ومطلب آخر يطالب به نتنياهو فى إطار «إصلاح» السلطة الفلسطينية، وهو أن تقوم السلطة بقطع الرواتب المالية عن أسر المسجونين الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية ومعظمهم لم يُقدَّموا للمحاكمة، لأن إسرائيل تعتبر ذلك دعمًا للإرهاب. فإسرائيل التى لم تجد تهمة توجهها إلى هؤلاء المسجونين بلا محاكمة تريد أن تعاقب أسرهم بحرمانهم من مصدر الرزق.. وهذا أيضًا يدخل فى نطاق العقاب الجماعى الذى تحرمه القوانين الدولية والشرائع الدينية، وأنا أعجب من صمت العالم على العقوبات الجماعية التى ترتكبها إسرائيل مثل نسف مساكن المشتبه بهم فى «جرائم» مقاومة الاحتلال واعتقال الآباء والأمهات والأبناء والأشقاء.

• • •

كلمة أخيرة أقولها لإعلامنا العربى أن يتحرى هو الدقة وتنقية الأخبار من الألفاظ المدسوسة؛ فقيام القوات الإسرائيلية باقتحام الحدود السورية واختطاف بعض المواطنين السوريين لا يعد «اعتقالًا»، فالاعتقال لا يتم إلا من خلال السلطة الشرعية فى البلاد وهى الحكومة السورية، إنما هو جريمة اختطاف، والأدهى من ذلك أن يوصف هذا العمل بأنه «لتقديمهم للعدالة».. وذلك جريًا على النمط الذى يتبعه معظم الإعلام العربى من وصف مَن تخطفهم إسرائيل بأنهم مطلوبون للعدالة بينما الأسرى لدى حماس هم مختطفون أو رهائن.

• • •

فليعلم العرب أن لديهم من مصادر القوة ما يمكن أن يُعمَل له حساب، وأن أمريكا تحتاج إليهم أكثر مما يحتاجون إلى أمريكا، ولا يجب أن يظلوا «كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول».

مساعد وزير الخارجية الأسبق

 

سيد قاسم المصري مساعد وزير الخارجية الأسبق
التعليقات