صوت المهمشين ضحكًا وبكاء - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 11:28 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

صوت المهمشين ضحكًا وبكاء

نشر فى : السبت 15 نوفمبر 2025 - 6:25 م | آخر تحديث : السبت 15 نوفمبر 2025 - 6:25 م

ودّعنا منذ أيام كاتب السيناريو المتميز أحمد عبد الله، أحد أكثر أبناء جيلنا موهبة، وصوت المهمشين بكل تناقضاتهم، فى الملهاة والمأساة، والذى عبّر أيضًا عن الشخصية المصرية الشعبية، واستلهم من واقعها وتفاصيلها نماذج درامية لا تُنسى. صاحب الضحكات الصاخبة فى «عبود على الحدود» و«الناظر» و«اللمبى» و«غبى منه فيه»، هو نفسه مؤلف أفلام «كباريه» و«الفرح» و«ساعة ونص»، وهو نفسه مؤلف مسلسلى «الحارة» و«رمضان كريم». وفى كل الأحوال، كان يكتب عما يعرف، وعن عالم مصرى تمامًا فى كل أبعاده، وبتنويعات مدهشة فى ألوانه ومعالجاته، من أقصى لحظات «المسخرة» إلى أقسى ساعات العذاب والأسى. كان عبد الله يتألق بشكلٍ خاص فى رسم الشخصيات العادية والغريبة، ثم يمنح الهامشيين البطولة على الشاشة، عوضًا عن حياة لا يراهم فيها أحد، وكان يفعل ذلك بكثيرٍ من الحيوية والخفة والبساطة. ثم اتجهت السيناريوهات التى كتبها إلى السرد المركّب عبر خطوط متوازية، فزادت الأسئلة الأخلاقية التى يطرحها كثافة وحضورًا، وابتعد إلى حد كبير عن «الفارص»، لصالح معالجات تراجيدية، أو حتى ميلودرامية.


لدى مع أعماله ذكريات لا تُنسى: أول مرة شاهدت شخصية اللمبى فى فيلم «الناظر» أصابتنى «الخضة»! سبب الخضة أننى شاهدت شخصية مثل اللمبى تقريبًا عند سمسار فى السيدة زينب، وكانت شخصية شرسة للغاية، لكنها مثيرة للشفقة، ويمكن وصفها بأنها مثل «حطام إنسان» يبحث عن «لقمة العيش». كان الرجل يرتزق من جلب أخبار الشقق التى تركها مستأجروها، ويحصل نظير ذلك على عمولة تافهة من السمسار البدين، وكان ذلك أقصى ما يفعله هذا البائس. أتذكر أننى لم أستطع فهم كلمات الرجل المتعثرة بفعل المخدر، وبدا لى أنه شخصية مأساوية تمامًا، كما كانت لهجته وكلماته عدوانية عندما عرف أن هناك من ينافسه فى مهمة الإخبار عن الشقق الفارغة. لذلك لم أتخيل أبدًا أن رجلًا مثله يمكن أن يصبح شخصية «كاريكاتيرية» ومضحكة تمامًا كما شاهدتها بكتابة أحمد عبد الله، وأداء محمد سعد، وإخراج شريف عرفة.


لا بد أن عبد الله كان يمتلك خيالًا واسعًا لكى يحوّل المأساة إلى «فرجة شعبية»، دون أن نغفل لمسات سعد، الذى أثق أنه شاهد ما يقترب أيضًا من هذا النموذج، فأخذه إلى حده الأقصى، ومنحه غرابة من جنس غرابته، وعشوائية حركية تليق به، وتعثرًا فى الكلام يمكن فهم أسبابه، ويتسق أيضًا مع حياة عبثية بلا معنى، وبلا طريق، وبلا غاية.


عندما شاهدتُ فيلم «اللمبى» بعد ذلك لأول مرة فى سينما أوديون، تأكدت لى موهبة أحمد عبد الله، وقدرته على فهم شخصية اللمبى بصورة أكثر عمقًا من مشاهده السريعة فى فيلم «الناظر». وسط الضحك الصاخب، والأداء الحركى الهزلى، والغناء الساخر فى الأفراح، منح السيناريو شخصية «اللمبى» مشاهد قليلة تظهر بؤسه وحيرته فى كسب رزقه، وتكشف عن مأساته فى محاولة جمع فلوس الفرح بشق الأنفس. وبعد الضحك مع وعلى «اللمبى»، شعرتُ بشفقة وألم عميقين، وتعاطفتُ معه بلا حدود، وتذكرتُ من جديد «لمبى السيدة زينب».
جعل أحمد عبد الله «اللمبى» مثل طفل كبير وجد نفسه فى الحياة عاجزًا ومندهشًا وفاشلًا، ولولا وجود أمه لأصبح فى ضياع كامل، ولولا حكاية حب مع فتاة يحلم أن يتزوجها، لما كان لحياته أى هدف. فى المشهد الأول نكتشف أن اللمبى بلا أوراق تقريبًا، وغير منتمٍ لشىء، وأنه قد صنع عالمًا خاصًا به، حتى الأغانى يفصّلها وفق ألحانه، أما أغنية «وقف الخلق ينظرون» فقد راحت عن باله فلم يتذكرها.


لم يكن يسخر من الغناء الكلاسيكى كما قال البعض، ولا من السلطة الرسمية، ولكنه كان يترجم ببساطة حقيقة كونه على الهامش تمامًا، وأن عليه، مثل من ألقى به وسط الماء، أن يعتمد على نفسه، وأن يخترع لغته وحركاته، ومهنته وعلاقاته، وأن يدافع عن وجوده بقدر ما تسمح به الظروف والأحوال. لا يخرج اللمبى من الحارة إلا فى مشاهد قليلة، إحداها عندما يحاول تأجير الدراجات الهوائية فى شرم الشيخ، ثم يعود من هناك مدحورًا ومطرودًا!


مثلما يهمشه المجتمع الرسمى، فإنه يهمّش هذا المجتمع، ويتحايل على المعايش مستدعيا شبح والده، الذى يذّكّره بعربة الكبدة المنسية، وفى كل خطوة يتعثر فيها نعرف أن هذه الضحكات تخفى جراحًا عميقة. عبر العشوائية والفوضى ينتزع اللمبى حبيبته، وحتى عندما يخبرنا المشهد الأخير بأنه يحاول أن يتعلم الحروف والكلمات، نجده قد تعثّر من جديد، ونجد أمه قد شاركته هذا العبث. هذا الرجل يلوّن كل شىء بألوانه، وهذا المواطن العشوائى لا يرى العالم أبدًا إلا بطريقته الخاصة.


رأيتُ فى فيلم «اللمبى» طبقة رقيقة وشفيفة من شجن وغُلب وفقر تغلف هذه المسخرة العارمة، ذلك أن عبد الله كان ساخرًا عظيمًا، ولكنه كان أيضًا إنسانًا متعاطفًا، يرى شخصياته من الداخل، ويدرك أن ضحكات الغلابة مجرد محاولات من ثقب إبرة لترويض الحياة.
يمكننى اليوم أن أقرأ فيلم «اللمبى» باعتباره «مأساة مقلوبة رأسًا على عقب»، بأكثر من كونها «كوميديا فارص صريحة»، لأن أى فوضى نراها هى حصاد الفقر والجهل والتهميش والمخدر، ولأن الحكاية بأكملها - لو تأملت - عن «مصر الأخرى» التى لا نعرفها والتى لا ننظر إليها، ولا ينظر إليها الخلق أيضًا!


لذلك كله لم أستغرب - فيما بعد - معالجات أحمد عبد الله الدرامية «التراجيدية»، فقد ظل دومًا يرى المأساة فى قلب الملهاة، وكان دومًا يضحك مع الغلابة، ولكنه يدرك بعمق مدى ذلك الشقاء الذى لا خلاص منه إلا بالموت. بعد كوميديا متعاطفة لم يعد الضحك ممكنًا، فانكشف الهامش متنكّرا فى هيئة شخصيات متزاحمة تتألم وتتصارع، فكأنهم يذكروننا بالوجه الباكى الذى خرجت منه وجوه اللمبى الضاحكة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات