إبداع اسمه «المونتاج»! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 8 نوفمبر 2025 8:17 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يفوز بالسوبر المصري؟

إبداع اسمه «المونتاج»!

نشر فى : السبت 8 نوفمبر 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : السبت 8 نوفمبر 2025 - 6:35 م

أؤمن تمامًا أن الفيلم السينمائى العظيم هو نتاج ثلاثة مصانع كبرى: السيناريو، ومكان التصوير، والمونتاج، والعنصر الأخير يمثل مرحلة بناء الفيلم سمعيًّا وبصريًّا وإيقاعيًّا، وهو أيضًا عملية إبداعية كبرى سواء فى الأفلام التسجيلية أو الروائية.
ويرى المخرج السينمائى الكبير أكيرا كوروساوا أن المخرج يجب أن يلم بكل عناصر الفيلم السينمائى، ولكن عليه أن يتقن عنصرين متفردين، بدونهما لن يكون مخرجًا؛ هما: كتابة السيناريو، وفن المونتاج.
لا نحتاج إلى دليل عمّا قد يضيفه المونتاج أو يفسده، فنحن نشاهد ــ كنقّاد ــ أفلامًا يتدفق فيها السرد بسلاسة وذكاء، فلا نشعر بزمن العرض حتى لو كان طويلًا، وأفلامًا أخرى ترهّلت واستطردت وتشعّبت فصارت مثل الكابوس، حتى لو كان زمن عرضها قصيرًا!
وهذا الكتاب الصادر من جزأين ضمن مبادرة «سينماء» السعودية لتعزيز المحتوى المعرفى السينمائى، وبدعم من هيئة الأفلام، والذى يحمل عنوان «المونتاج والفيلم السينمائى»، ويتصدّر غلافه اسم د. منى الصبّان، الأستاذة فى معهد السينما، ومديرة المدرسة العربية للسينما والتلفزيون، أعتبره من أمتع وأهم الكتب السينمائية التى صدرت فى السنوات الأخيرة، بمادته النظرية والعملية، وبفكرته اللامعة والذكية.
قرّرت د. منى خلال فترة تدريسها لفن المونتاج فى معهد السينما أن تستضيف كبار المبدعين لكى يتناقشوا مع طلاب قسمى المونتاج والإخراج، ويقدموا خلاصة تجربتهم فى تخصصات مختلفة، فتراكمت تسجيلات مهمة للغاية، تم تفريغها، فصارت مادة للكتاب الدسم، الذى أعتقد أنه ما زال مفيدًا وضروريًّا، ليس فقط فى فهم دور فن المونتاج، ولكن فى تذوق لغة السينما البصرية والمسموعة.
ما أثرى مادة الكتاب أن تشارك د. منى فى المناقشة المونتير الفذ سعيد الشيخ، والمونتير الكبير عادل منير، وأن يكون ضيوف هذه المحاضرات أسماء مثل: صلاح أبو سيف، وهنرى بركات، وسمير سيف، وعلى بدرخان، ومحمد خان، وحسين فهمى، ونور الشريف، ومهندسا الصوت مجدى كامل، وجميل عزيز، ومهندس المؤثرات الحية الشهير حسن الشاعر.
استمتعتُ باللقاءات كلها، بل وتعرّفتُ منها على أستاذين كبيرين حقًّا فى تعليم السينما هما حسين فهمى، ونور الشريف. حواراتهما مع الطلاب مذهلة، وفيها الكثير من الخبرة العملية للنجمين فيما يتعلق بعلاقة الممثل بالمونتاج.
نعرفهما بالطبع كممثلين، ولكن قدراتهما التحليلية والتعليمية، وحصادهما الثقافى الرفيع، وتفاصيل رؤيتهما لتكنيك الممثل، كل ذلك كان غائبًا وغير معروف لى، وبدون مبالغة فإن ما قاله فهمى والشريف فى محاضرتيهما يمكن أن يصنع كتابًا مستقلًا شديد الأهمية والقيمة.
الخطوط العامة فى الجزأين (أكثر من 600 صفحة) يمكن إيجازها فى عدة نقاط:
أولها؛ أن المونتاج عملية إبداعية، وليست مجرد ترتيب لمشاهد الفيلم وفقًا للسيناريو؛ لأن المونتير والمخرج يبثّان الروح فى المادة المصورة، ويصنعان إيقاعها، ويبتكران ما يضيف إلى المعنى والدراما، وينقذان الموقف أحيانًا بتصحيح أخطاء حدثت أثناء التصوير.
الأمر الثانى؛ هو أن المخرج الذى يتقن المونتاج تصبح لديه مرونة فى التكيف مع ظروف التصوير، وفى اختيار ما يريد بالضبط من زوايا ولقطات، بينما يبدو بعض المخرجين الذين يفتقدون مهارة المونتاج تائهين تمامًا، فيصورون مشاهد ولقطات لا يحتاجونها، وتتعقد أمامهم عملية الاختيار فى حجرة المونتاج.
الأمر الثالث المشترك فى تلك المحاضرات؛ هو التأكيد على ضرورة وجود «تصور مسبق» تقريبى للشكل الذى سيظهر عليه الفيلم. بعض المخرجين يكتب التقطيع بصرامة لا تتبدل، وهناك من يترك هامشًا كبيرًا للارتجال فى موقع التصوير.
لدينا مخرج يجلس مع المونتير خطوة بخطوة، وهناك من يترك المونتير يعمل بمفرده، ثم يقول رأيًا فيما تم تركيبه. ولكن فى كل الحالات لا بد من وجود هذا «التصوّر المسبق» لدى المخرج.
الأمر الرابع؛ هو أن الفيلم السينمائى لا يعمل فى فراغ؛ لأنه ابن ظروفه الإنتاجية وظروف تصويره، بمعنى أن الإنتاج يحدد محتوى وحجم المادة المصورة، التى تصل فى النهاية إلى «المونتير»، كما يحدد مستوى الإنفاق على عمليات مهمة وأساسية مثل: الموسيقى التصويرية، وعملية «الدوبلاج» ــ إن وُجدت ــ وكذلك المؤثرات الصوتية الحية، ويؤثر الإنتاج فوق كل ذلك على الوقت اللازم لإنجاز كل هذه العمليات، فالإبداع يحتاج إلى كفاءات أولًا، ثم إلى توفير الوقت الكافى لتعمل فيه.
فى كل فصل آراء ممتازة، وحكايات شيقة: صلاح أبو سيف يحكى عن كيفية تعامله مع موقف طارئ، عندما اكتشف أن القرية التى اختارها للتصوير قد جرفها الفيضان، وأن عليه أن يصور فورًا فى مكان جديد. سمير سيف يقول إنه تعلم تحليل الأفلام وهو طالب من التفريغ الكامل لفيلم «دعاء الكروان»، حتى حفظ الفيلم بالكادر!
هنرى بركات يعترف بأن فريد الأطرش أقنعه بالأغنيات الطويلة التى تؤثر على الإيقاع؛ لأن جمهور فريد كان يريد هذه الأغنيات! المخرج على بدرخان له رأى مهم من خبرة عمله كمساعد مع يوسف شاهين؛ إذ يرى أن شاهين كممثل كان أقوى من معظم ممثليه، ولذلك كانوا يقلّدونه «لا شعوريًّا» لأنه الأفضل، ولم يفلت ــ فى رأيه ــ من ذلك إلا محمود المليجى وعلى الشريف.
محمد خان يحلِّل للطلاب مشهد المطعم فى فيلم «موعد على العشاء» بين حسين فهمى وسعاد حسنى؛ كان حوار المشهد على ثلاث صفحات، ولكن خان استخدم المونتاج والموسيقى فقط؛ لأنهما يقدمان المعنى ببلاغة أكبر.
حسين فهمى يتحدث عن نقطة مهمة جدًا، هى أن المسألة ليست إحساس الممثل بدوره، وإنما ما يصل إلى المتلقى من هذا الإحساس، ويستعرض آراء مختلفة عمّا إذا كان تعليم «التكنيك» يفيد المواهب الاستثنائية، أم أنه يفسد أداءها وفطرتها.
نور الشريف يقدّم تفكيكًا وتحليلًا لتكنيك مشاهد تمثيلية قدّمها فى أفلامه، ويتحدث باستفاضة وأستاذية عن خطورة اللقطات الصامتة، وتأثير إيقاع الممثل فى أدائه للمشهد على مونتاج الفيلم الأخير.
شكرًا د. منى على جمع هذه المحاضرات النادرة، وأتمنى أن يكون الكتاب ــ بجزأيه ــ متاحًا لكل هواة السينما ودارسيها.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات