مناظر داخلية لشقق بها ستائر دانتيل وبوفيه خشب محفور وكراسى صالون مذهبة ومائدة طعام مليئة ببقايا اللب الأسمر، وصور شخصية ولوحات لهبة خليفة، مؤلفة كتاب «عين النمرة» الصادر أخيرًا عن دار وزيز، تارة وهى مغطاة الرأس وتارة وهى مستلقية فوق بيوت قديمة مرت بها وعرفت ما بداخلها. هذه التوليفة الفريدة من صور ولوحات ونصوص حرة تنتمى لنوع الاعترافات النسائية أوالتعرية الذاتية جعلت للكتاب مذاقا خاصا، إذ لا يوجد تعريف واحد لما يسمى «كتب الفنانين» التى تتعدد أشكالها لكن تقربنا عادة من خيال صانعها وعالمه، حتى لو أن بعضها يُنتج بطبعات صغيرة.
نفهم سر اختيار المصورة الفوتوغرافية والفنانة التشكيلية للعنوان منذ الصفحات الأولى، فأمها وخالاتها كن يقولن لها منذ الصغر «يا أم عين نمرة»، كناية عن جرأتها ونظرتها بغضب لمن حولها، وكن يعتبرن ذلك نوعا من التبجح أو قلة الأدب. وهو ما أكده أحد مدرسيها فى المرحلة الابتدائية حين أطلق عليها هو الآخر «أم عين نمرة»، فبدا الأمر وكأن هناك اتفاق على ذلك. هى بالفعل عيونها ملونة وتشبه عيون النمرة، ولكن ليس بالمعنى السيئ، بل لأنها تلمع وطريقة بروزها تمنحها زاوية رؤية واسعة، فعيون النمور مضاءة من الخلف بغشاء يعكس الضوء عبر الشبكية وتساهم هذه الخاصية فى جعلها براقة أكثر من غيرها وترى بشكل أفضل ست مرات من البشر فى الظلام. كما أن شجاعة هبة خليفة فى طرح مشاعر الغضب والخوف وذكريات مؤلمة، كانت تحاول أن تتناساها لكى تمضى قدم فى مشوارها، تحيلنا أيضًا إلى محاولات المجتمع لترويض النمرة بداخل المرأة وكبح جماح النساء المتمردات.
• • •
أيقنت صاحبة الكتاب أن «الطريق الوحيد للخارج يمر عبر الداخل»، لذا قررت أن تستكمل هذا المشروع وتُشاركنا تجربتها بكل صدق، وكان ذلك بمثابة «عملية قلب مفتوح، جراحة ذاتية، فتحت قلبى وخيطته»، «فالكتابة تحضر الوحش وبتحضر الخوف منه فى نفس الوقت»، هكذا دونت بالعامية، كما لو كانت تتحدث معنا وتسر بما حبسته بداخلها لسنوات، لأن خططها السابقة كانت دوما تهدف إلى الهروب من الأسر، بدلًا من المواجهة.
تبدأ قصتها بهروبها من بيت أهل والدها وهى فى الخامسة من عمرها، قاصدة منزل أمها وخالاتها الذى يقع على بُعد 30 مترًا، «تلاتين متر بيفصلوا بين البيتين (...) تلاتين سنة لحد ما عرفت أمشيهم تانى، كأنى ماشية جوه النار». تركتها أمها لتتفرغ لأختها التوأم (الشاعرة غادة خليفة) التى ولدت معتلة الصحة ولأخيها الأكبر. عاشت فى بيت أهل الأب الذى غادر دنيانا باكر ولم يكن أحد منتبهًا لوجودها حتى صار اسمها «وأنا وأنا»، لأنها كانت دائمًا بحاجة لأن تذكر من حولها أنها طفلة ولها حقوق وأحلام. تعرضت للتحرش وهى صغيرة فى ذلك البيت الذى تركته، ما جعل الخوف والغضب يصاحبانها لاحقًا وينعكسان على علاقتها بالرجال بصفة عامة، صار هؤلاء مصدرًا دائمًا للتهديد بالنسبة لها. وتنامى هذا الخوف وامتد إلى مناحٍ متفرقة مثل الغرق فى البحر وانعدام الجاذبية الأرضية، رغم حلمها الدائم بالطيران والتحليق على طريقة المتصوفة، وهو ما تتناوله بالتفصيل وبصراحة مطلقة من خلال نصها الكاشف والأعمال الفنية التى يحواها الكتاب.
• • •
هبة ورثت حب الرسم عن أمها وعائلتها، مثلها مثل خالتها سيدة، الأقرب إلى قلبها، «كبيرة فنانات العيلة» التى تلمس أى شىء فيتحول إلى جمال.. هى أيضًا قادرة بخيالها المتقد أن تعيد تركيب المشاهد العادية فيصبح بخار الحمام غيمة سحرية، وتصنع عالمًا كاملًا وكأنها تعيش على سحابة. لقد اعتمدت تلك الطريقة عمومًا فى حياتها للتحايل على واقع لا ترضاه. «الصدمات خلتنى شديدة الحساسية، والفن خلانى غير ميالة للتوافق (...) رغم جوعى الشديد إنى أتشاف كان عندى حساسية مفرطة ناحية السيطرة، أو إن حد يحطنى فى قالب عشان يعرف يتعامل معايا».
رحلتها مع الفن ساعدتها كثيرًا على التعافى وكذلك تجربة الأمومة بعد زواج لم يدم طويلًا. النص يتعرض بوضوح لفكرة كيفية الخروج من سجن الذات والتصالح مع النفس ومع ميراث عائلى لم نختره، وتدعمه بقوة اللوحات التى تمزج أحيانًا بين التصوير الفوتوغرافى والتشكيل، وهو خليط مميز اشتهرت به هبة خليفة، التى تحررت أيضًا من الحجاب الذى فُرض عليها من إخوانها الصبيان بعد انتهائها من مشروع تخرجها فى كلية الفنون الجميلة سنة 2000، قسم ديكور سينما ومسرح.
مع تحررها عبر الكتابة ومسيرتها الفنية استطاعت أن تُشخص مرضها الذى عانت منه العائلة بأسرها. «كل عيلتنا، الأحياء والأموات عانوا من مرض الحب المتجمد، بس ما كنتش عارفة اسمه»، حب عالق متجمد، لم يتم منحه، هو الآخر ضمن ميراث العائلة: «بيقولوا الطاقة بتتحرك عبر أجيال العيلة الواحدة فى دواير مكررة لغاية ما ييجى حد يكسر الدايرة ويتحرر منها»، وقد اضطلعت هى بهذه المهمة سعى وراء السماء الواسعة التى تنتظرها، بناءً على نصيحة معالجة روحانية قابلتها ذات مرة.
• • •
نستمع من خلال الكتاب إلى صوت هبة ونساء أخريات من عائلتها: صوتها المفجوع الذى يأتينا من بئر عميقة عند فقدان أخيها، صوت خالتها وهى تنازع الموت وتناديها، صوت أغنية «شىء من بعيد نادانى» التى سمعتها لأول مرة وهى فى الصف الخامس الابتدائى وجلست على حافة السرير تتأمل مشهد «لقطر كبير بيعدى بسرعة على القضبان، وكأن فعلًا ندهتنى النداهة»، وصوت أمها «المحشور جوا الزور من غير أى كلام، لسنين طويلة كان الصوت ده بس كفيل يوقعنى من طولى، أو يملأنى إحساس بالذنب والعار".
ترسم علاقتها المعقدة مع أمها بواسطة سرد موجع رغم بساطته. هى أشبه بالقنفذ الذى يزين أحد أعمالها الفنية المنشورة فى الكتاب، وقد وصفها عالم النفس فرويد عند تناوله لبعض العلاقات الملتبسة والمركبة: فى فصل الشتاء تلتصق القنافذ ببعضها البعض للتغلب على البرد، وحين تتلامس أشواكها تشعر بالوخز ويصير التقارب مؤلما، كذلك هو الحال فى بعض العلاقات الإنسانية. مع الأيام والتجارب تعلمت هبة أن تحب نفسها، مع ميلاد ابنتها تفجرت بداخلها طاقة من الحب، خصصت بعضه لشخصها. حصلت على منحة من مؤسسة ماجنوم وأخرى من الصندوق العربى للثقافة والفنون، فكان هذا الكتاب الفاخر.