أن تسلبك إسرائيل وظيفتك الصحفية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 8:32 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

أن تسلبك إسرائيل وظيفتك الصحفية

نشر فى : الإثنين 17 نوفمبر 2025 - 6:55 م | آخر تحديث : الإثنين 17 نوفمبر 2025 - 6:55 م

خلال إحاطة إعلامية يومية للمفوضية الأوروبية ببروكسيل يوم 13 أكتوبر الماضى، تساءل الصحفى الإيطالى غابرييل نونزياتى، الذى كان يعمل مراسلًا لوكالة الأنباء الإيطالية «نوفا»، عما إذا كان ينبغى على الاتحاد الأوروبى مطالبة إسرائيل بتمويل إعادة إعمار قطاع غزة، بعدما أمعنت فى تدميره كليًا. وذلك أسوةً بدعوات أوروبية سابقة لإلزام روسيا بدفع تعويضات، أو تجميد 300 مليار دولار من أصولها السيادية فى أوروبا، توطئة لتوجيهها لإعادة إعمار أوكرانيا. لا سيما وأن المفوضية الأوروبية كانت قد دعت إسرائيل سابقًا إلى تعويض المتضررين الذين ذهبت ممتلكاتهم، بحسب تصريحات سابقة لجوزيب بوريل، الممثل الأعلى السابق للسياسة الخارجية الأوروبية. بيد أن تساؤل نونزياتى تسبب فى ارتباك المتحدثة باسم المفوضية، باولا بينيو، حتى اضطرت إلى التهرب من الرد المباشر عليه.
بينما كان يظن أن سؤاله مشروع ومهنى بالنظر إلى حجم الدمار الذى لحق بغزة، أكد الصحفى الإيطالى لمجلة «بوليتيكو» الأوروبية تلقيه «اتصالات متوترة» من إدارة الوكالة خلال الأيام التى أعقبت الإحاطة الإعلامية، حتى تم إبلاغه فى 27 أكتوبر الماضى بإنهاء عقده معها. وبعدما أكدت الإدارة فى بيان للمجلة ذاتها فصل الصحفى، أفادت بأن السؤال الذى طرحه أثناء إحاطة المفوضية أظهر «سوء فهم للمبادئ الأساسية للقانون الدولى»، كما انطوى على «خطأ تقنى»، إذ كشف عدم إدراك الفارق بين حالتى روسيا وإسرائيل، كون الأولى دولة تغزو دولة أخرى، فى حين تتعلق الثانية بدولة تلاحق تنظيمًا مسلحًا تعتبره إرهابيًا على أرض كيان يفتقد الشخصية القانونية لجهة الاعتراف الدولى من لدن مجلس الأمن الأممى. واعتبرت الوكالة كذلك أن انتشار السؤال عبر منصات إعلامية متعددة «أدى إلى إحراج الوكالة وتقويض الثقة المهنية بها».
بيد أن نونزياتى يرفض هكذا تفسيرات، ويراها تبريرات لتوارِى موقف سياسى منحاز، وتبرز حجم الضغوط التى يتعرض لها الصحفيون أثناء تغطيتهم أحداث غزة. كما تعيد هذه الواقعة، من وجهة نظره، تسليط الضوء على ازدواجية المعايير فى تغطية الحروب، لا سيما الموقف الرسمى الأوروبى غير الموضوعى حيال العدوان على غزة، معبرًا عن أسفه إزاء الصمت والحذر المفرط والعقاب الذى يلقاه من يطرح أسئلة لا يطيق البعض سماعها.
أثار قرار إنهاء تعاقد نونزياتى استياء دوائر إعلامية وحقوقية إيطالية وأوروبية شتى. فمن جانبها، دعت نقابة الصحفيين الإيطاليين وكالة «نوفا» إلى إلغاء قرار فصله، معتبرة إصدار قرار كهذا بسبب سؤال مهنى «سابقة خطيرة» تمس استقلالية الصحافة فى البلاد. بدوره، وصف عضو البرلمان الأوروبى عن حركة «النجوم الخمس»، غايتانو بيدولا، القرار بأنه شكل من أشكال الرقابة التى تنال من حرية الصحافة واستقلاليتها، وتساءل عما إذا كانت المفوضية الأوروبية قد مارست ضغوطًا غير مباشرة على إدارة وكالة «نوفا» لاتخاذ مثل هذا القرار، معتبرًا أن أى تدخل من هذا النوع يمثل سابقة خطيرة تشين حرية الإعلام فى إيطاليا.
غير بعيد، وبين طيات انتقادها لما وصفتها بازدواجية المعايير فى أوروبا، تساءلت رئيسة جمهورية سلوفينيا، ناتاشا بيرك موسار، خلال مقابلة لها مع برنامج «لقاء خاص» على فضائية «الجزيرة» فى التاسع من نوفمبر الجارى: «إذا كنا نفرض العقوبات على روسيا بجريرة انتهاكها القانون الدولى حيال أوكرانيا، فلماذا نتردد فى فرضها على إسرائيل بشأن غزة؟!». وأكدت موسار تمسك بلادها بموقفها الداعم لإقامة الدولة الفلسطينية، محذرة من تقويض التوسع الاستيطانى الإسرائيلى لهذا الحق. وضمن سياق الإجراءات العملية، أعلنت سلوفينيا فى يوليو الماضى شخصين من الوزراء الإسرائيليين «غير مرغوب فيهما»، وبعدها بأسبوعين فقط فرضت حظرًا على جميع الأسلحة والمعدات العسكرية المرسلة من سلوفينيا إلى إسرائيل، أو تلك المستوردة منها، أو حتى المنقولة منها أو إليها، من أية وجهة عبر الأراضى السلوفينية.
منذ شنت عدوانها الخامس على قطاع غزة فى الثامن من أكتوبر 2023، انبرى كاتب هذه السطور بالدعوة إلى إلزام دولة الاحتلال الإسرائيلى بوقف هجومها الغاشم وتحمل كلفة إعادة إعمار القطاع، الذى أقدمت على تسويته بالأرض بدم بارد، وعلى مرأى ومسمع من المجتمع الدولى. كما ارتكبت بحق قاطنيه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، واستخدمت التجويع سلاحًا، بشهادة الأمم المتحدة والجهات المعنية والمنظمات الدولية ذات الصلة. وبموازاة ما طرحته بهذا الخصوص، إبان مداخلاتى التلفزيونية على شاشات مصرية وعربية ودولية، فصّلت لهذا الأمر خلال مقالى المنشور بجريدة «الشروق» الغراء يوم الثلاثاء الموافق 21 يناير الماضى بعنوان «المسئولية الإسرائيلية عن إعمار غزة». حيث طالبت صراحة بضرورة أن ينهض المجتمع الدولى لحمل إسرائيل على التكفل بإعادة إعمار القطاع، كون جيشها هو المتسبب فى كل ما لحق به من تدمير للبشر والحجر والبنى التحتية.
فوفقًا لشهادات موثقة من جهات إسرائيلية وأمريكية ودولية، اقترفت إسرائيل جرائم تطهير عرقى وإبادة جماعية وجرائم حرب. كما تم إفساد الممتلكات الفلسطينية والاستيلاء عليها بغير ضرورة عسكرية، فضلًا عن تنفيذ هجمات دون تمييز ضد السكان والأعيان المدنية، بما فيها المستشفيات والمؤسسات التعليمية والمنشآت الدينية، وجميعها جرائم دولية بحسب المواد السادسة والسابعة والثامنة والثامنة مكرر من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية. كذلك، تؤكد اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949، والمعنية بحقوق الشعوب الخاضعة للاحتلال، وجوب الحفاظ على الحالة القانونية القائمة بأية منطقة عند احتلالها، وحظر النقل القسرى للسكان المحليين خارجها، ومنع إسكان مواطنى دولة الاحتلال بالمنطقة المحتلة. ولما كانت الضفة الغربية وقطاع غزة أراضٍ محتلة عام 1967، من وجهة نظر القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة، فإن اتفاقية جنيف الرابعة والأحكام الواردة فى المادة 85/4 (أ) من البروتوكول الإضافى الأول لاتفاقيات جنيف الأربع تنطبق عليهما.
على مستويات ثلاثة، تتجلى مسئولية إسرائيل لجهة إعادة إعمار غزة: أولها ضرورة إنهاء الحصار البغيض وغير القانونى، الذى فرضته دولة الاحتلال قبل 18 عامًا، وحوّلها إلى أضخم سجن ثم أوسع مقبرة على وجه الأرض، فضلًا عن دمج غزة اقتصاديًا واجتماعيًا مع الضفة الغربية ثم العالم الخارجى. أما ثانيها، فيتمثل فى تحمل دولة الاحتلال كلفة وجهود إعادة إعمار غزة. وأما ثالثها، فيتجلى فى إلزامها بتعويض الفلسطينيين، الذين اعترفت غالبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولتهم، عن مختلف الأضرار الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، وكذا عن كل الانتهاكات المنبعثة من حرب الإبادة ضد سكان غزة. إذ تقتضى المسئولية المدنية الدولية إلزام أية دولة بتقديم تعويض مادى أو معنوى نتيجة ارتكابها، بصفتها أو أحد الأشخاص الاعتباريين باسمها، فعلًا غير مشروع فى القانون الدولى يترتب عليه ضرر مادى أو معنوى لدولة أخرى أو لرعاياها.
ويتضمن التعويض العينى إعادة الأمور إلى حالتها الطبيعية قبل وقوع الضرر، عبر إعادة بناء المنشآت والبنى التحتية التى أتت عليها الحرب، وضمان عودة الحياة الطبيعية إلى المناطق المتضررة، إنهاء احتلال غزة والضفة، إعادة الممتلكات العامة والخاصة، والإفراج عن المعتقلين. وأما التعويض النقدى، فيتمثل فى تقديم مبالغ مالية مناسبة للمتضررين بغية جبر الضرر الذى حل بهم.
وحال تنصلها من تلك المسئولية، كما دأبت خلال مرات عديدة سابقة، يتعين على الجماعة الدولية تجميد أصول إسرائيل السيادية فى الخارج وتوجيهها قسرًا لهذا الغرض، تأسيًا بما فعلت الدول الغربية مع روسيا فيما يخص أوكرانيا.
اليوم، تتعاظم المخاوف الأمريكية والدولية من عدم استكمال تنفيذ اتفاق العاشر من أكتوبر الماضى بشأن غزة. فثمة تقارير بشأن تحركات أمريكية إسرائيلية سرية لوضع خطط طوارئ بديلة حول مستقبل القطاع حال انهيار الاتفاق وخطة ترامب. وفى الأثناء، يخشى مسئولون ومراقبون غربيون أن تقتصر أية تحركات لإعادة الإعمار، حتى من دون الانتقال إلى مرحلة الاتفاق التالية، على المنطقة الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، ما قد يؤدى إلى تقسيم مستدام للقطاع بحيث يغدو الخط الأصفر حدودًا فعلية تشطر غزة شطرين، أحدهما إسرائيلى والآخر حماساوى.
أحسبنى بحاجة إلى تكثيف شكرى لخالقى، كونى لا أعمل لحساب مؤسسة صحفية أوروبية تحاصرها المخالب الأخطبوطية للوباء الصهيونى، فلربما لقيت نفس مصير الصحفى الإيطالى نونزياتى، الذى فقد وظيفته بجريرة طرحه تساؤلًا مهنيًا ومنطقيًا بشأن مسألة كنت صاحب قصب السبق فى إثارتها قبل عامين.

التعليقات