فنلندا 1939 وأوكرانيا 2025 - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 1:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يفوز بالسوبر المصري؟

فنلندا 1939 وأوكرانيا 2025

نشر فى : الإثنين 10 نوفمبر 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : الإثنين 10 نوفمبر 2025 - 7:20 م

بظلالها المربكة تلقى السرديات التاريخية وخبرات الماضى على توجهات الدول وسياساتها فى لاحق أيامها. حيث يتجلى تأثيرها المباشر فى تشكيل رؤى وتصورات أصحاب القرار؛ فيما اصطلح على تسميته «سياسات الذاكرة فى العلاقات الدولية». وفى زماننا، تبدو استراتيجيات تعاطى روسيا والغرب حيال الأزمة الأوكرانية الراهنة متأثرة باستيعاب الجانبين لمجريات ومآلات أزمة فنلندا عام 1939.
فمن جانبه، يرنو بوتين إلى محو عقدة ما عرف، وقتئذ، بحرب الشتاء بين فنلندا والاتحاد السوفياتى، والتى لم ينجز الأخير خلالها انتصارا عسكريا حاسما، لكنه عمد على إثرها إلى انتزاع مغانم جيوسياسية مرضية. فبعد 105 أيام من المواجهات الدامية تكبد الجانب الفنلندى 65 ألف مقاتل، من بين قرابة 600 ألف تم استدعاؤهم؛ بينما بلغت خسائر الجيش الأحمر السوفيتى نحو 391٫8 ألف جندى، من أصل مليون شاركوا فى القتال. ورغم ذلك تمكن ستالين من فرض شروط بدت فى حينها، مجحفة على فنلندا. إذ اضطرت إلى التنازل عن 11% من أراضيها لصالح السوفيات، مع التعهد بعدم الانضمام إلى أى تحالف عسكرى مناهض للاتحاد السوفييتى. فعقب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتقسيم بولندا بين ألمانيا والاتحاد السوفيتى عام 1939، سعى الأخير إلى تغيير حدوده مع فنلندا، بحيث تمتد حتى برزخ كاريليان غربًا؛ بغية حماية مدينة لينينجراد (سانت بطرسبرج حاليًا) من أى هجوم ألمانى محتمل عبر الأراضى الفنلندية.
لطالما اعتقد ستالين أن فنلندا تمثل تهديدًا محتملاً لأمن المدينة مما يستوجب تأمين حدودها من خلال نقلها بمنأى عنها. ولإدراك تلك الغاية، آثر السوفييت الاستحواذ على العديد من الجزر بخليج فنلندا، وتأمين عقد إيجار لمدة ثلاثين عامًا لقاعدة بحرية فى هانكو. ولإقناع الفنلنديين بمقترحها، عرضت الحكومة السوفييتية على نظيرتها الفنلندية مقترحا لتبادل الأراضى، مع تمكينها من نشر قوات سوفيتية فى مناطق استراتيجية فنلندية، مقابل مبادلة أراضٍ بشرق كاريليا، علاوة على ضمانات تجارية وأمنية. وعندما رفضت فنلندا العرض السوفييتى، الذى ظنت أنه يضعها تحت طائلة العدوان الروسى مستقبلا، ويجبرها على تفكيك بنيتها التحتية الدفاعية داخل الأراضى المتبادلة؛ شن الجيش الأحمر السوفيتى هجومًا نهاية نوفمبر1939، معلنا بداية الحرب الروسية الفنلندية. تلكم، التى انتهت فى 13 مارس 1940، بتوقيع معاهدة موسكو، التى تنازلت بموجبها فنلندا عن جزء من أراضيها للاتحاد السوفيتى، مقابل احتفاظها باستقلالها.
اليوم، وبعد زهاء سنوات أربع على اندلاع حرب اقتنصت روسيا على إثرها قرابة 20% من مساحة أوكرانيا؛ ينشد بوتين تسوية سياسية للأزمة الراهنة تكفل استبقاء تلك الأراضى تحت السيادة الروسية، مع استدامة حياد أوكرانيا. كأننا بالرئيس الروسى وقد عمد إلى استخلاص العبر من منعطفات الأزمة الفنلندية خلال العام 1939. فمثلما انضوت أوكرانيا تحت لواء الاتحاد السوفيتى السابق، خلال الفترة (1922 ــ 1991) كانت فنلندا ضمن الإمبراطورية الروسية ما بين عامى 1809 و1917، حتى نالت استقلالها عنها مطلع عام 1918، عقب انفجار ثورة عام 1917 وتولى البلاشفة زمام السلطة فى موسكو. وبينما ظلت فنلندا تتحسب لغزو سوفييتى، لم يخف السوفييت قلقهم من أن تسمح فنلندا لإحدى الدول غير الصديقة لبلادهم، لاسيما ألمانيا وبريطانيا، بمهاجمة الاتحاد السوفييتى عبر أراضيها. خاصة وأن الحدود السوفيتية الفنلندية فى منطقة برزخ كاريليا ( كاريليا الغربية)، لم تكن تبعد سوى 32 كيلومترا فقط عن مدينة لينينجراد، التى تشكل مركزا صناعيا حيويا، كما تمثل ثانى أهم مدينة سوفيتية وقتذاك.
بموازاة تشييدها خط دفاعى محصن بامتداد حدودها مع الاتحاد السوفيتى، أطلقت عليه خط «مانيرغيم»، تلقت فنلندا دعما عسكريا ولوجيستيا أوروبيا، تجلى فى الإمداد والتموين لقواتها عبر الاحتياطيات المتدفقة من الحلفاء الغربيين، لاسيما بريطانيا وفرنسا. فلقد انخرط فى القتال إلى جانب الجيش الفنلندى قرابة 11,500 ألف متطوع أجنبى، غالبيتهم من الدول الإسكندنافية؛ فيما عكفت ألمانيا على تزويد القوى الرجعية فى فنلندا بمساعدات سرية. غير أن كل هذا الدعم لم يرق إلى مستوى ذلك الذى تتلقاه أوكرانيا حاليا، على الأصعدة العسكرية، والاقتصادية، واللوجيستية والاستخباراتية. وحينما تم تشكيل ما يسمى بالحكومة الشعبية الفنلندية، التى ترأسها الناشط الشيوعى الفنلندى أتو كووسينين فى ديسمبر عام 1939 بمدينة تريوكى (زيلينوجورسك المعاصرة)، واعترف بها الاتحاد السوفييتى رسميا؛ ثم أبرم معها معاهدة الصداقة والتعاون المتبادل. تجنبت الدول الغربية الاعتراف بهذه الحكومة. وفى 14 ديسمبر 1939، أقدمت منظمة عصبة الأمم على تجميد عضوية الاتحاد السوفييتى بها، بجريرة إعلانه الحرب ضد فنلندا. كما فرضت الولايات المتحدة حظرا على توريد تقنيات الطيران إليه. الأمر الذى أثر سلبا على تطوير صناعة الطيران السوفييتية التى كانت تعتمد كليا آنذاك على تلك المحركات الأمريكية.
بحلول مارس 1940، أدركت الحكومة الفنلندية استحالة الارتقاء بمستوى الدعم العسكرى الغربى الذى تتلقاه، بالرغم من إلحاح الحلفاء الغربيين عليها لمواصلة المقاومة والصمود فى مواجهة الضغط العسكرى السوفييتى. وفى ظل تهاوى خطوطها الدفاعية الحصينة، وجدت فنلندا نفسها عقب اختراق خط «مانيرغيم»، عاجزة عن كبح جماح توغل الجيش الأحمر. لذا، تملكتها هواجس السقوط فى براثن الاحتلال السوفييتى، الذى كان سيتلوه منطقيا ضمها رسميا إليه، أو إسقاط نظامها والمجىء بحكومة موالية لموسكو. لذا، قبلت الحكومة الفنلندية يوم 12 مارس1940، بتوقيع معاهدة السلام مع الاتحاد السوفياتى، والتى تم بموجبها وقف العمليات الحربية فى اليوم التالى مباشرة.
ينبعث إصرار، بوتين، اليوم على ضرورة حياد أوكرانيا وانتزاع ضمانات أمنية غربية صارمة؛ مما تمخضت عنه أزمة فنلندا عام1941. فبعد عام واحدٍ فقط على نشوب حرب الشتاء بين الاتحاد السوفييتى وفنلندا، اندلعت الحرب بين ألمانيا والاتحاد السوفييتى فى يونيو 1941، وحينئذ تحققت مخاوف السوفييت بسماح فنلندا للقوات الألمانية بالمرور عبر أراضيها لغزو الاتحاد السوفييتى. ثم ما فتئ أن انضم الفنلنديون لاحقا إلى القتال ضد السوفييت، يوم 25 يونيو 1941، أى بعد مضى ثلاثة أيام فقط على بداية الغزو الألمانى للأراضى السوفييتية؛ ضمن ما يعرف بـ«حرب الاستمرار»، أملا فى استعادة الأراضى، التى اقتطعها السوفيت من بلادهم خلال حرب الشتاء، قبل نحو 15 شهرا.
مع بداية تدخلها فى الأراضى السوفييتية، استعادت فنلندا مناطق حيوية كانت قد فقدتها سابقا، بالبرزخ الكاريلى وبحيرة لادوغا. كما تقدمت القوات الفنلندية بعمق 30 كلم من قلب لينينجراد، لتشارك فى حصار هذه المدينة السوفييتية، التى طوّقها الألمان لأكثر من عامين. بيد أن هذا الإنجاز العسكرى الفنلندى لم يدم طويلا. فعقب معركتى ستالينجراد وكورسك، تجلى التراجع الألمانى، كما تقهقر الفنلنديون بهجوم فيبورج بيتروزافودسك، ما بين يونيو وأغسطس 1944؛ وفقدوا جلّ المناطق، التى استعادوها من قبضة السوفييت مطلع الحرب. وبموازاة نجاحهم فى إخضاع منطقة فيبورغ وإقصاء الفنلنديين منها، اتجه السوفييت للمسارعة فى التفاوض مع فنلندا؛ أملا فى إدراك وقف لإطلاق النار معها ونقل مزيد من القوات صوب الجبهة الغربية، بقصد تكثيف الضغوط على الجيش الألمانى. وذلك بعد موافقة فنلندا على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا، وطرد 200 ألف جندى ألمانى خارج الأراضى الفنلندية، قبل منتصف سبتمبر 1944. ليدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ يوم 4 سبتمبر 1944. وبعدها بأسبوعين، وقّع الاتحاد السوفييتى وفنلندا هدنة موسكو، التى كانت بنودها قاسية على الفنلنديين. فبموجبها، تنازلت فنلندا عن أجزاء هامة من كاريليا وسالا، إضافة لعدد من الجزر بخليج فنلندا. كما خسر الفنلنديون منطقة بيتسامو الغنية بالمعادن، ووافقوا على تأجير أراضى بوركالا للاتحاد السوفييتى لمدة خمسين عاما. كما أرغموا على تكبد تعويضات الحرب للاتحاد السوفييتى، قدرت حينها بقيمة 300 مليون دولار. وسمحوا للأحزاب الشيوعية بمباشرة أنشطتها على أراضيهم، بينما تعهدوا بحظر جميع الأحزاب والحركات التى صنّفها السوفييت فاشية. وبضغوط سوفييتية، أقدمت فنلندا على محاكمة بعض كبار مسئوليها السابقين المتورطين فى إعلان الحرب ضد الاتحاد السوفييتى.
من جانبهم، لا يبدو أن الأوروبيين، الذين يستحضرون مرارات تنازلات اتفاق ميونيخ مع هتلر عام 1938، مستعدين، هذه الأيام، لاستنساخ سيناريو أزمة فنلندا عام 1939، لدى المعترك الأوكرانى. لذلك، يصر «تحالف الراغبين» على مواصلة دعم كييف بكل قوة؛ حتى لا تتلقى هزيمة منكرة، تضطرها إلى تقديم تنازلات جيوسياسية مهينة، تستنفر الطموحات الجيواستراتيجية الأوراسية للدب الروسى.

التعليقات