لم يكن ظهور الفنان ياسر جلال فى حفل تكريمه فى مهرجان وهران السينمائى بالجزائر مجرد مناسبة فنية عابرة، بل تحوّل إلى واحدة من أكثر القضايا تداولًا فى الأيام الماضية، بعدما ألقى كلمة تضمنت معلومات غير دقيقة بشأن دور الجزائر فى مصر عقب حرب 1967، حين قال إن الجزائر أرسلت قواتها لمساندة مصر بعد النكسة.
استند جلال الذى أصبح عضوًا فى مجلس الشيوخ عن حزب حماة الوطن وأدى اليمين الدستورية قبل أسابيع قليلة، إلى رواية نسبها لوالده عن قوات صاعقة جزائرية تحمى المصريين فى ميدان التحرير، وبين من دافع عنه باعتباره تحدث بحسن نية لمجاملة الجزائر، ومن هاجمه معتبرًا أن تزييف التاريخ جريمة خاصًة عندما تكون من شخص ليس مجرد فنان لكنه يحمل الآن صفة نيابية رسمية، واتسع الجدل ليصبح أكبر من مجرد سقطة كلامية، خاصًة مع إصرار الفنان نفسه على ما قاله فى الحفل قبل أن يعلن تراجعه فى وقت لاحق بالتزامن مع إعداد هذا المقال للنشر.
سقطة كاشفة
تكشف هذه السقطة عن ضرورة مراجعة معايير اختيار الأعضاء للمجالس النيابية، فالتعيين البرلمانى فى الأصل، جاء ليضمن تمثيل فئات لا تصلها الانتخابات بسهولة، وليستوعب شخصيات عامة ذات خبرة مجتمعية أو أكاديمية أو فكرية تضيف إلى النقاش العام، لكن ما يحدث فى بعض الأحيان أن الشهرة تطغى على الكفاءة، حتى لو لم يكن صاحبه مؤهلًا.
فى الوقت نفسه، مع تمثيل الفنانين والرياضيين فى المجالس النيابية، لابد من ضمان جاهزيتهم للتمثيل الرسمى فى الداخل والخارج، لكن التجربة أظهرت أن بعض هذه الاختيارات لم ترافقها آليات تأهيل، أو برامج تدريب سياسية ومعرفية تتيح للقادم من عالم الفن والرياضة القدرة على ممارسة السياسة فالتمثيل النيابى لا يكون مجرد دردشة وتبادل الآراء فى المشكلات العامة، وعندما يتحدث عضو المجلس النيابى سواء فى المجلس أو خارجه لابد أن يقيس كلماته بميزان من ذهب.
دروس من برلمانات العالم
فى برلمانات كثيرة حول العالم، يخضع الأعضاء الجدد لبرامج مكثفة تعرف باسم induction programs، تتضمن جلسات تعريفية عن طبيعة النظام السياسى ومهام المجلس، ومبادئ البروتوكول والدبلوماسية العامة، والتعامل مع الإعلام ووسائل التواصل، وكيفية إعداد المداخلات والبيانات العامة.
وفى بعض البرلمانات توجد وحدات تدريب متخصصة داخل البرلمان نفسه، تُلزم الأعضاء الجدد بحضورها قبل ممارسة مهامهم، ولا تهدف هذه البرامج إلى تحويل النائب إلى خبير سياسى، بل تسعى لتحصينه من الارتباك أو الوقوع فى سقطات مماثلة لما وقع فيه ياسر جلال.
أما فى التجربة المصرية، فلا وجود لآلية مماثلة، رغم أن مجلس الشيوخ يضم عددًا كبيرًا من الشخصيات العامة والوجوه الجديدة على العمل البرلمانى. وأحيانًا يكتفى الأعضاء الجدد بحضور الجلسة الافتتاحية والتقاط الصورة التذكارية، دون أى برنامج تعريفى بمسئولياتهم أو بأصول الخطاب العام، وإن كانت الأكاديمية الوطنية للتدريب قدمت بعض الدورات التدريبية لأعضاء مجلس الشيوخ الجدد بشأن مهارات الاتصال يبدو أنها ليست كافية ولم تضم جميع الأعضاء، فبالتأكيد ليس من الحصافة أن يقف شخص مشهور حتى إن لم يكن سياسيا متحدثًا عن التاريخ من روايات أسرته.
من الأزمة إلى الإصلاح
بدلًا من أن يتحول الجدل حول تصريحات ياسر جلال إلى حملة تنمّر أو هجوم شخصى، ربما يجب أن يُستغل كفرصة لمراجعة اختيارات التعيينات البرلمانية، ووضع معايير موضوعية وواضحة تضمن التوازن بين التمثيل والتأهيل خاصة ونحن مقبلون على تشكيل مجلس نواب جديد.
الخطأ الذى وقع فيه ياسر جلال قابل للتصحيح، لكن المنظومة التى تضع أشخاصًا فى مواقع لا تؤهلهم لها، تحتاج إلى تصحيح أعمق، وإذا كنا نتحدث عن تطوير الخطاب السياسى والإعلامى فى مصر، فالبداية الحقيقية تكون من تطوير مفهوم «العضو النيابى» نفسه: كيف يختار، كيف يُعدّ، وكيف يُحاسب.
سينتهى الجدل بشأن تصريح الفنان وعضو مجلس الشيوخ، سينتهى كما انتهت عشرات الترندات، لكن الدرس الذى تركه لا يجب أن يُنسى، لنبدأ فى صياغة معايير جديدة للاختيار وإيلاء الاهتمام بالتدريب الحقيقى والتأهيل للقادمين الجدد إلى البرلمان.
كاتبة وصحفية متخصصة فى الشأن السياسى والبرلمان