أحببتُ كثيرًا فكرة وأجواء هذه الرواية السويسرية المترجمة، التى تتأمل أشياء كثيرة مثل الحقيقة والخيال، وما نعرفه عن الآخر، وما يسمح الآخر أن نعرفه عنه، وتحكى عن الحب كعاطفة معقدة للغاية، ربما حتى على الذين يحبون، وتناقش مع بطلها العجوز ما يبقى فى الذاكرة، وما يستحق أن يوضع فى مفرمة الورق.
الرواية التى صدرت عن دار العربى بعنوان «ميلودى» من تأليف مارتين زوتر وترجمة هبة شريف، تستخدم حبكة البحث والتحقيق على طريقة الروايات البوليسية، وتحتفظ بمفاجآتها حتى السطور الأخيرة، إلا أنها أيضًا رواية شخصيات وتأملات، وحكاية متعددة المستويات، رغم بساطة وكلاسيكية السرد، وربما لو كانت أقل حجمًا، لكانت أكثر إحكامًا.
تبدأ الحكاية من حدثٍ بسيط: شاب يُدعى توم، عاطل رغم أنه حاصل على ماجستير فى القانون، يقرأ إعلانًا يطلب فيه السياسى والمليونير المعروف د. بيتر شتوتس مساعدًا له فى ترتيب ملفات كثيرة مرتبطة بأحداث حياته الطويلة.
الرجل فى سن الرابعة والثمانين، وليس أمامه سوى عام واحد يعيشه، ولذلك فهو مهتم بأن يعرف الناس عنه صورة محددة، واختار هذا الشاب النشيط ليتعامل مع طوفان الأوراق القديمة بكل أسرارها.
عبر الجزء الأول، تتواصل لقاءات توم ود. بيتر، وتصبح جلسات حجرة المدفأة بمثابة لقاء بين عالمين، ومن خلال الطعام والخمور، يجد د. بيتر مساحة واسعة للفضفضة ومراجعة ماضيه بأكمله.
ورغم تاريخه العسكرى الطويل وتاريخه السياسى الحافل الذى جعله صانعًا للوزراء عبر نفوذه وأمواله، فإنه لا يرى فى كل ذلك ما يستحق الاحتفاظ به، فقد أراد دومًا أن يكون فنانًا، وأهم ما يحب أن يحكيه هو قصة حبه التى يتذكرها بكل تفاصيلها مع فتاة مغربية مسلمة تُدعى «ميلودى».
كان توم قد لاحظ لوحاتٍ كثيرة رسمها د. بيتر لفتاة جميلة، توزعت تلك اللوحات فى جنبات القصر الذى أقام فيه توم مع بيتر طوال فترة العام المقرر. ومنذ ظهور اسم «ميلودى» فى حكايات د. بيتر، تتوالى قصتها على لسانه، وكأنها ليالى «ألف ليلة وليلة»، ولكنها هذه المرة على لسان شهريار، وبدافع رغبة د. بيتر فى توثيق توم لهذه الحكاية الغريبة.
وفقًا لرواية د. بيتر، كانت «ميلودى» تعمل فى مكتبة، وقع فى غرامها سريعًا، وأحبته، وقررت أن تتزوجه بدلًا من خطيب أرادت أسرتها المهاجرة فرضه عليها. وقبل الزفاف، اختفت «ميلودى»، وبدأ د. بيتر رحلة البحث عنها من المغرب إلى سنغافورة، لكنه لم يعثر لها على أثر.
عندما يموت د. بيتر، يكتشف توم أنه جعله وصيًا على توزيع تركته، ولكنه يقرر أيضًا مع حفيدة د. بيتر أن يكتشف سر اختفاء ميلودى قديمًا، خصوصًا مع وجود احتمال أن تكون على قيد الحياة.
فى اليونان تتكشف حقيقة ميلودى الغريبة، ونصبح أمام نهاية مزدوجة تذكّرنا من جديد بلعبة الحقيقة والخيال فى رواية د. بيتر.
نُسجت العلاقة بين د. بيتر وتوم بشكل جيد، حيث تتقاطع مقولات والد توم الراحل مع مقولات د. بيتر العجوز، بذلك يبدو مثل أب حكيم، وتوم مستمع جيد وكتوم رغم فضوله، والرحلة كلها إنسانية بطلها رجل ينتظر الموت، ويرى فى الشاب رفيقًا مثاليًا، ويريد توديع الحياة تاركًا حقائق معينة عن شخصيته، وكأنه يصنع «روايته الخاصة» بعد أن عاش حياته مؤديًا أدوارًا سياسية وعسكرية بعيدة عن شخصيته.
ولكن مع موت د. بيتر، وفى الجزء الثانى من الرواية، يقرر توم ولاورا، حفيدة د. بيتر، أن يقوما بالتحقيق فى مدى صحة رواية العجوز الراحل عن الفتاة المغربية «ميلودى»، ويقوم المؤلف بتشكيكنا فى صحة وجود هذه الشخصية، أى إنها من المحتمل أن تكون خيالًا كاملًا اخترعه د. بيتر لكى يتسلّى فى أيامه الأخيرة. ولكن النهاية تصنع مزيجًا مذهلًا من الحقيقة والخيال، وتجعل د. بيتر شاهدًا على الحقيقة ومتخيلًا لها أحيانًا.
وإذا تصورنا أنها الحقيقة الأخيرة عن «ميلودى»، تأتى سطور الرواية الأخيرة لتعطينا - كقراء - حقيقة جديدة عن ميلودى لم يعرفها توم ولاورا فى اليونان، أى إن الحقيقة لديهما ناقصة كذلك، وبذلك يصبح الجميع (بيتر، وتوم، ولاورا) لديهم أجزاء فقط من الحقيقة.
فإذا تذكرنا أن كل هذه «الحقائق» هى جزء من رواية خيالية كاملة من تأليف الكاتب السويسرى مارتين زوتر، الذى يقدم فى نهاية روايته الشكر لكثيرين ساعدوه على اصطناع هذا العالم الخيالى وتلك البلاد البعيدة التى كتب عنها بالتفصيل، فإن معنى اللعبة يكتمل أخيرًا: فلا توجد مسافة كبيرة بين الواقع والخيال، بل لعلهما وجهان لنفس العملة، وليس أدل على ذلك من ازدواجية رواية د. بيتر، وتأرجح «ميلودى» بين الموت والحياة، والظهور والاختفاء، حتى آخر سطور الرواية.
على غلاف الرواية اقتباس لجملة حوار قالها د. بيتر؛ وهى: «عدم قول الحقيقة كاملة ليس كذبًا»، وهى أيضًا عبارة كان يرددها والد توم، ولنتذكر أن د. بيتر أو «ميلودى» لم يكونا يقولان الحقيقة كاملة، وعاطفة الحب بينهما كانت معقدة للغاية. أما رحلة البحث عن حقيقة «ميلودى» فيقودها توم دارس الحقوق والمؤمن بالحقيقة، ولاورا دارسة الأدب والنقد والمؤمنة بالخيال.
على مستوى آخر، تظل العلاقة بين الإنسان وأقنعته موضع تساؤل ودهشة، فالوجوه التى تقدمها الرواية لـ د. بيتر كثيرة، وسنكتشف أيضًا أن وجوه «ميلودى» كثيرة، وهى الشخصية الغامضة التى لم تُخصص لها الرواية صوتًا ذاتيًا.
الجميع يحكون عنها، بينما هى «شهرزاد» الغامضة، الحاضرة مثل الطيف، ورغم ذلك فهى مؤثرة على الجميع، وكأنها لحن يسمعه كل شخص بطريقة معينة، ويغنيه أيضًا بالطريقة التى يحب.
رأيتُ فى «ميلودى» معنى الغموض الذى يحاصرنا، فقد رحل د. بيتر دون أن يعرف النهاية الحقيقية، على كثرة ما فرز «توم» وفرم من أوراقه القديمة.