الإعمار المشروط - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 2:00 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يحسم السوبر المصري؟


الإعمار المشروط

نشر فى : الإثنين 3 نوفمبر 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الإثنين 3 نوفمبر 2025 - 7:25 م

أرجأت خطة ترامب عملية إعادة إعمار قطاع غزة المُدمَّر إلى المرحلة الثالثة والأخيرة من اتفاق وقف إطلاق النار، الموقَّع فى العاشر من الشهر المنقضى، ما يجعل مجرد بلوغها ضربًا من الإعجاز؛ نظرًا لما تنطوى عليه المرحلتان السابقتان لها من فخاخ وألغام. فلا تزال المرحلة الأولى أسيرة مماحكات إسرائيل بشأن هوية بعض جثامين ورفات أسراها الأموات لدى حماس وأخواتها من الحركات المسلحة الفلسطينية، فيما تترقَّب المرحلة الثانية خلافات طاحنة حول الانسحاب الإسرائيلى من باقى القطاع، وسلاح حماس ودورها المستقبلى، وتشكيل القوات الدولية ومهامها، فضلًا عن إدارة القطاع أمنيًا وسياسيًا.

 


وإلى جانب تحديات تتصل بالكلفة المالية، ومصير ما ينيف على 61 مليون طن من الركام، وما يعجّ به من ذخائر ومقذوفات غير منفجرة، تُشكِّل 10% مما رمى به العدوان الإسرائيلى الغاشم أرجاء غزة؛ تصطدم عملية إعادة إعمار القطاع بمعوّقات إسرائيلية شتى تجعلها مشروطة، أو تذرها كالمعلَّقة.
إعاقة الاحتلال استكمال تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار: إذ لا يتورع نتنياهو عن مواصلة انتهاك الاتفاق منذ سريانه فى الحادى عشر من أكتوبر المنقضى، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 211 مدنيًا فلسطينيًا، وإصابة 597 آخرين. ويبرر المحتل جرائمه من خلال تكييل الاتهامات لحركة حماس بالمماطلة المتعمَّدة فى تسليم جثامين ورفات 11 أسيرًا إسرائيليًا قتيلا لديها. حتى إن نتنياهو أكد لمدير المخابرات العامة المصرية، اللواء حسن رشاد، أثناء زيارته إسرائيل مؤخرًا، أن تعمُّد الحركة تسليم رفات وجثامين «كاذبة»، على حد زعمه، سيقوِّض المضيّ قدمًا فى تنفيذ باقى مراحل الخطة الأمريكية للتسوية.
فى المقابل، تؤكد الحركة حرصها على إنجاز المهمة بأسرع وقت، غير أنها تحتاج متسعًا زمنيًا، ومعدات متطورة وآليات ثقيلة لاستخراج ما تبقّى من الرفات والجثامين، فى ظل الدمار الهائل الذى خلّفه العدوان الإسرائيلى الغاشم. لكن سلطات الاحتلال تأبى إلا إعاقة دخول تلك المتطلبات، وهو ما يفاقم التعقيدات اللوجيستية والتقنية القائمة، ويطيل أمد المهمة.
أما بخصوص نزع سلاح حماس، فيصرّ الاحتلال على تعليق انسحابه الكامل من غزة، بموجب المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، على معالجة هذا الأمر. حيث تعتقد أوساط استخباراتية إسرائيلية أن الحركة ما زالت تحتفظ بنصيب وافر من أسلحتها الثقيلة، وتسعى لإعادة تأهيل قدراتها الهجومية، مستعينة بما يفوق نصف الأنفاق التى حفرتها.
وبناءً عليه، اشترط نتنياهو على واشنطن إرجاء الشروع فى إعادة إعمار غزة إلى حين الانتهاء من نزع سلاح حماس كليًا وإبعادها عن الأراضى الفلسطينية. ولعل هذا ما يفسر تأكيد ترامب أن جهود إعادة الإعمار لن تنطلق إلا بعد تجريد الحركة من سلاحها وجعل القطاع منزوع السلاح، كما سيتم توجيه الأموال فقط لإعمار المنطقة التى يسيطر عليها الاحتلال دون تلك الخاضعة لسيطرة حماس.
تعطيل الاحتلال دخول المساعدات إلى القطاع المحاصر والمنكوب: يواصل الاحتلال مراوغاته ومناوراته فى التعاطى مع ملف المساعدات، فلا يتوانى عن اللعب بورقة إغلاق المعابر بين الفينة والأخرى بقصد الضغط على فصائل المقاومة المسلحة فى غزة وابتزازها استراتيجيًا.
وقبل أيام، أصدرت محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قانونية تابعة للأمم المتحدة، قرارها الثالث حيال الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، والذى يُلزم سلطات الاحتلال بضمان تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان المدنيين فى قطاع غزة المحتل. كما تطالب هيئة المحكمة، المكوَّنة من 11 قاضيًا، سلطات الاحتلال أيضًا بدعم جهود الإغاثة التى تقدمها الأمم المتحدة ووكالاتها فى القطاع، لاسيما وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
ورغم أن رأى المحكمة يُعدّ استشاريًا قانونيًا وغير ملزم، إلا أنه قد يفاقم الضغوط الدولية على إسرائيل، بغية حملها على التعاون مع الأمم المتحدة، وإجبارها على السماح بإدخال مزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة.
الاستثمار الأمنى فى الميليشيات الموالية للاحتلال داخل القطاع: لم تزل الاتهامات تلاحق الاحتلال باصطناع فصائل مسلحة مناهضة لحماس فى غزة، حيث يتطلع إلى تكليفها بمهام أمنية رديفة حال استكمال تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بما يضطره إلى مغادرة القطاع. أما فى حال تعثّر تنفيذ الاتفاق، فسيُبقى الاحتلال على هذه التشكيلات الغزّية المسلحة بصفتها قوة أمنية محلية لا تتبع أى سلطة فلسطينية، إذ يسعى إلى ضمان وجود حاجز ديموغرافى وأمنى يفصل بين غزة ومستوطنات غلافها، على أن تتولى مهمات حفظ الأمن داخل المناطق الحدودية بما يضمن تعزيز التمركز العسكرى الإسرائيلى فيما يسمى «منطقة الحماية» أو «المنطقة العازلة»، التى تمثّل 8% من مساحة القطاع.
وقبل أيام، وتزامنًا مع زيارة وزير الخارجية الأمريكى روبيو إلى تل أبيب، أقرّ الكنيست تمرير مشروع قانون لتطبيق السيادة على مناطق فى الضفة الغربية، التى يفتأ الاحتلال يمزق أوصال تماسكها الجغرافى والديموغرافى.
فى انتقاد لاذع للتراخى الأمريكى حيال الانتهاك الإسرائيلى الممنهج لاتفاق وقف إطلاق النار بغزة، اعتبر موقع ذا ناشيونال إنترست الأمريكى أن أى اتفاق يسمح لأحد طرفيه بانتهاك بنوده على نحو متواصل إنما هو مجرد حبر على ورق. ومن ثم طالب إدارة ترامب، بوصفها الضامن لتنفيذ الاتفاق، إذا ما كانت تريد إنقاذ خطتها للسلام، بمباشرة الضغط على نتنياهو كى يلتزم به، مع اشتراط ربط المساهمات الدولية فى عملية إعادة إعمار غزة بعدم عرقلتها أو إرجائها من جانب الاحتلال الإسرائيلى.
وكعادتها، حرصت القاهرة على بلورة المبادرات الكفيلة بإنقاذ اتفاقات التسوية ومشاريع التهدئة، حيث أعلنت اعتزامها استضافة مؤتمر «التعافى المبكر وإعادة الإعمار والتنمية فى غزة» خلال النصف الثانى من الشهر الحالى، ضمن إطار الخطة العربية الإسلامية التى سبق أن أقرتها الدول العربية والإسلامية وعدد من الدول الصديقة، وبما يتسق مع الجهود الدولية الرامية لتنفيذ خطة ترامب للسلام وما تتضمنه من بنود تتعلق بإعادة تنمية القطاع.
لا يبرح الاحتلال يصرّ على تعطيل إعادة إعمار غزة، وإعاقة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، وتقييد دخول المساعدات الإنسانية. ولا ينفك المسئولون الإسرائيليون والأمريكيون يتمسكون بإعادة إعمار المناطق الغزّية الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية فقط؛ ضمن مؤامرة إعادة صياغة واضحة لخطة نقل الفلسطينيين إلى ما كان يُسمّى سابقًا بـ«المناطق الإنسانية»، الأمر الذى من شأنه تكريس استحالة الحياة فى باقى القطاع مع غياب أسبابها الأساسية، ومن ثم تسهيل إتمام سيناريو التهجير الناعم والصامت للفلسطينيين عبر مخططات ومؤسسات إسرائيلية.
تتملّك المنظومة الأمنية الإسرائيلية مخاوف عميقة إزاء الإصرار الأمريكى على المسارعة فى تنفيذ خطة ترامب لإنهاء الحرب فى غزة، وتحذّر دوائر أمنية من احتمالية تعارض ذلك النهج الأمريكى مع المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية الحيوية؛ على شاكلة خطوط تمركز جيش الاحتلال، وتعليمات إطلاق النار، وسبل إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، التى باتت تُحدَّد الآن من قِبل جهات أخرى، وليس من قبل إسرائيل وحدها.
ويتعاظم قلق المنظومة الأمنية الإسرائيلية بشأن إمكانية نزوع الولايات المتحدة نحو فرض قيود على إسرائيل فى ما يتعلق بمثل هذه التدابير، ما قد يحدّ من قدرة جيشها على معاودة استخدام القوة فى القطاع، أو يغلّ أيدى المستوى السياسى عن فرض عقوبات قاسية على حماس.
ورغم تعقيداته الأمنية والسياسية، يرى مايكل أورين، المؤرخ والسفير الإسرائيلى السابق لدى واشنطن، أن الوضع الحالى فى غزة حالة مثالية بالنسبة لإسرائيل على المدى الطويل، تشبه المرحلة الثانية من اتفاقيات أوسلو فى تسعينيات القرن الماضى، إذ تجمدت العملية السياسية آنذاك عند مرحلة انتقالية تحوّلت تدريجيًا إلى واقع مستدام يتوافق مع المآرب الإسرائيلية.
ذلك أن سيطرة الاحتلال على 53% من القطاع، مع وجود كيان فلسطينى مسلح وغير معترف به فى الجزء المتبقى، سيكون كفيلا بتقويض أى انفراجة سياسية محتملة صوب إقامة دولة فلسطينية مستقلة، إذ سيكرّس الانقسام الداخلى الفلسطينى، ويجعل استمرار الوضع الراهن فى غزة ملمحًا من ملامح «الاستقرار المفيد» الذى تؤثره إسرائيل على أى تحرك دولى باتجاه تسوية سياسية شاملة عادلة ودائمة تستتبع بدورها اعترافا أمميا بالدولة الفلسطينية.

التعليقات